الفنان «صالح الخضر» يُوثِّق «ذاكرة المادة» ويجعلنا نحضر معرضه مرتين
تشرين- بديع صنيج:
يدهشنا الفنان “صالح الخضر” في كل معرض جديد له، بقدرته على تطويع أدواته، وسبر كينونة المواد التي يشتغل عليها، ولا يختلف في ذلك معرضه الأخير المقام في المركز الوطني للفنون البصرية، إذ نراه يعزز رؤيته الفلسفية القائمة على استكشاف الجوهر وتدوير المظهر بما يناسب استكشافه ذاك، وذلك ضمن حوار ممتع بين الذات والموضوع، واللعب على التقنية الخاصة التي يشتغل عليها هذا الفنان وفق رؤيته التجريدية المبهرة.
توغُّل “الخضر” نحو العمق يستمر في إعطاء لوحاته أبعاداً جديدة، لاسيما أنه توغُّل باتجاهين، الأول باتجاه ذاته ومحاولة استكناه خبايا جديدة وزوايا لم يكن قد وصل إليها بعد، والثاني نحو آليات تفكيره التشكيلية وتسخير المواد بين يديه للتعبير عن مكنوناته الداخلية، كل ذلك يضعنا في معرضه أمام قراءتين لكل لوحة، الأولى حين النظر إليها من بعيد، والأخرى عندما نُدَقِّق في تفاصيل التكوين والتلوين وسماكات السطح وغيرها مما يتيح لنا تحليلاً آخر لما يريده هذا الفنان المُتحرِّر في تجريديته من أي قيود، وخاصةً مع سعيه لأن يخط لنفسه خطاً واضحاً، وفريداً، ولا يشبه أحداً غيره في مداورته لكل ما حوله من جَمال حتى ذاك المغروز في عمق الألم والمرارة، ولو كان ذلك عبر تحقيق توازن شفيف بين رمادياته الفاتحة، وأبيضه الناصع، وبقية الألوان التي تحمل في ثناياها حساسية خاصة، على الرغم من بساطة توزيعها، إلا أنها قوية في تأثيرها على كل من يرى أعماله.
ومن الواضح في هذا المعرض أيضاً هاجس “الخضر” في إنعاش المادة التي يشتغل عليها، وتوقه الكبير للتفكير بكينونتها حتى إعادة إنعاشها وتثوير الحياة فيها، وكأنه في ذلك يقارب شعرية نزيه أبو عفش في كتابه “ذاكرة العناصر” حين طالبنا “فَكِّرْ في الألم مثلما كان مايكل أنجلو يفكر في عذاب الصخر.. فَكِّر في أحزان النباتات.. فيما يتألمه الطائر.. وما تشقاه البذرة.. وما يحمله عرق النبات المقطوع”…
شعرية “صالح” وسَبرُه كُنه المادة لا تكتفي بذاتها، بل نراه يواكبها دائماً بمقترحات جمالية فريدة في تكوينها وألوانها وتجريديتها المتحررة من السائد، بأوراقه المحروقة والكتابات عليها والرماد والأتربة والألوان التي يوزعها بطريقة مذهلة وعفوية والأهم أنها واعية لمكامن جمالها، وعناصر دهشتها.
لوحات تُشاكس برمادياتها الفاتحة، وأخرى يغلب فيها البياض ليبدو في تجاوراته مع ألوان أخرى أكثر نصاعةً وألقاً، ومع التلاعب بالحدود بين الألوان، ورشاقة إيقاع توزيعها بين بعضها، يصل “الخضر” إلى توازنات دقيقة على سطح اللوحة، الذي يضيف عليها في كثير من الأحيان سماكات غير متوقعة، ما يُغني جماليات العمل، وكأنه يسعى لإعادة تأليف ذاكرته البصرية الغنية والمُستَفزّة دائماً بمكنونات ضيعته “وادي العيون”.
فلسفة خاصة يؤكد فيها “الخضر” أن للمادة روحها الكامنة، إذ يعتبرها ليست جماداً يحضن الحياة فحسب، بل إن الحياة تكمن في ذراتها وجُسيماتها. ومن هذه الجسيمات تشعُّ حيواتٌ لا متناهية يعجزُ الحسُّ والعين المجردة عن إدراك كنهها، لكنّ التأمّلَ والاستبطان يكشفان سرَّها الخفيَّ المذهل: كُمون الحياة في تضاعيفها واستعدادها لأنْ تندمج في كينونة حيّةٍ تعكس حيواتها السابقة بل وتعيش تجلّيَها الجديد الآسر.
يقول في تعريفه لفلسفته ضمن معرضه الذي أحب تسميته “ذاكرة المادة”: “هذا التجلي يُحقَنُ ليس بأنامل الفنان أو الشاعر، وإنما بأنفاس تجلياته الموروثة، لينتج كينونةً أخرى تتآلف فيها (النفس، الذات، الذاكرة) غير المدرَكة جنباً إلى جنب مع عجينةِ ما يُسمّى (عناصر جامدة)، وهذا بالضبط ما أعيشه في لوحاتي، وأبعث فيها أرواحها العتيقة الكامنة، مع كوامِنِ ما لا أستطيع أن أراه في دخيلتي وفي معنى العالم، عن طريق عجينةٍ تشبه (المضغة الأولى)- عجينة خَلْق جديد يمكن للرائي أن يعيشه دون أن يفهمه، بترَاسُلٍ خلّاقٍ بين العناصر وبين الذرات الجامدة التي تشكَّلْتُ، وتشكَّلَ منها هذا الكائن الحيّ”.
وتابع: “في داخلي توقٌ عميق، عصيٌّ، إلى ذاتي الكامنة ليس في التاريخ والأمكنة فحسب، بل في أثيرِ وامتدادات العناصر. هذا التّوق الذي يضعني على طريق التّوحّد في الوجود، ليوصلني، وأنا داخل مرسمي الصغير، إلى امتلاك الكون الفسيح على مساحة قماشٍ يُسمّى بياضُها الموتَ، وألوانُها الخلودَ”.
وعن التقنية التي يستخدم فيها كثيراً من الورق والورق المحروق أوضح: “هذه الروح الكامنة التي تحدثت عنها علينا أن نشعر بها بطريقة ما، طريقة غير علمية، بالعاطفة والتأمل، فهي بالنهاية بحث عن ذاكرة الشجرة، وذاكرة الثمرة، وذاكرة النسغ الذي تنقله لتصنع منه حياة تلك الثمرة، أي إن لديها ذاكرة لا واعية، ويمكن تسميتها العقل الباطني الخاص بها، وأنا أخاطبها بطريقة التعاطف والتأمل حتى أصل إلى صيغة بيني وبينها أعيد تشكيلها وأضيف عليها من عاطفتي ومخزوني البصري، وذلك لصياغة نص بصري جديد يحمل
الذاكرتين بحوار وجودي عن لماذا نحن ولماذا هذا الكون”. وأضاف الخضر: “يأتي بعد ذلك دور المتلقي بذاكرته وعالمه الداخلي الوجداني، إن استطاع أن يصل إلى تلك العاطفة ويتأملها سيتفاعل مع اللوحة ويكون عنده نص بصري يخصه. فالفنان يخلق لوحة تشكيلية، والمتلقي يخلق لوحة بصرية”.