إدغار ألن بو في واقعه البربري.. عندما يكون الحلم الشعري هوىً وليس هدفاً!!

تشرين- علي الرّاعي:

«لم أكن أبداً كالآخرين،
لم أشعر بالحزن لما يحزنون له،
ولا بالفرح لما يفرحون،
لم أسعد بالربيع الذي يحبونه،
وكل ما أحببت؛
أحببته وحدي..»
يُحدد «إدغار ألن بو» (1809 – 1849) الشعر على أنه الخلق الإيقاعي للجمال، وأن حكمه الوحيد هو الذوق، ولا علاقة له بالعقل أو الوعي، إلّا بصورة جانبية، وهو لا يهتم إطلاقاً بالواجب أو الحقيقة اللهمَّ إلّا مصادفة.. و(بو) هو ناقد أدبي أمريكي مؤلف وشاعر ومحرر، ويعتبره النقاد جزءاً من الحركة الرومانسية الأمريكية، حيث اشتهرت حكاياته بالأسرار وأنها مروعة، فهو حسب المُهتمين بإبداعه؛ واحدٌ من أقدم الممارسين الأمريكيين لفن القصة القصيرة، كما يعتبرونه مخترعاً نوعاً من خيال التحري. ويعود إليه الفضل في المساهمة في هذا النوع من الخيال العلمي الناشئ حينها. فقد كان أول كاتب أمريكي معروف يُحاول كسب لقمة العيش من خلال الكتابة وحدها، ما أدى إلى حياة صعبة مالياً ومهنياً، وهو أنموذج مُوجع للكتّاب الحالمين في مجتمعٍ بربري.

القصر المسكون
يصف جون دوغلاس سيلي أستاذ فقه الأدب واللغة في جامعة كاليفورنيا في الولايات المُتحدة الأمريكية إدغار ألن بو؛ بالبذرة الطائرة التي لم يُعرف لها مستقر.. فقد قضى حياته هائمًا لا تستقر له حال رغم الجمال الشعري الذي سعى إليه، و”بو” المولود في بوسطن عام 1809م الإنكليزي الأصل، الأمريكي الجنسية؛ كان فقَدَ أبويه – الممثلين- في أقل من ثلاث سنوات، فجرى تبنيه من قبل عائلة أمريكية هي عائلة (ألن) – يوحنا وفرانسيس ألن، من ريتشموند، فيرجينيا- حيث كانت تربيته صارمة مشحونة بتناقض العواطف المتراوحة بين أشدِّ العقوبات الجسدية والحنان البسيط.. حياة من السوداوية والتنقل والقصاص أدّتْ إلى هروبه من البيت والتحاقه بالجيش، وقيامه بأعمال أخرى مشابهة، كانت النتيجة حرماناً، وديوناً و.. بؤساً، وفي نظر المجتمع الأمريكي في ذلك الزمان هو لقيطٌ، يُقابل كلَّ ذلك بمحاولاتٍ شعرية يُحاول أن يفرضها سنة 1831م في نيويورك، وكان مصمماً على احتراف الأدب، فأصدر “قصائد” حيث فشل شعره الفاتر حينذاك، وقد أعمل فيه الفكر كثيراً، بعكس ما وصّف، ومن ثمّ لم يلفت إليه انتباه أحد، فلم يُباع الديوان، ولم يلاقِ الانتشار الذي كان يحلم به فعاد إلى البؤس والسُكر والضياع، ومحاولات الانتحار التي أقدم عليها ثلاث مرات، مع فقدان الوعي والخوض في الهذيان والارتعاش، إلى أن مات عام 1849م.. وما زاد محنته فقدانه لزوجته باكراً، والتي كانت – على ما يُروى – أنها ابنة عمه.
كانت بدايته الإبداعية بفوزه في مسابقة من خلال قصة قصيرة كتبها في الأربع والعشرين سنة، ومن حينها أصبح الناقد الأدبي لمجلة “رسول الأدب الجنوبي” وحينها أمسى إدغار مشهوراً في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر مجموعة بعد “الغراب” سنة 1845، وبعد كتابة قصص مثل “جرائم القتل في شارع المشرحة” و”علة الذهب”، حيث تجاوزت شهرته الأراضي الأمريكية إلى أوروبا، غير أنّ حياته لم تلبس أن تحطمت بسبب اصطدامه مع واقع لا يُعيرُ كثيراً الشعر وحساسية القصيدة أهمية.

مقاطع لهيلانة النائمة
ومن الكلمات الأخيرة التي وصف صاحب “مقاطع لهيلانة النائمة” بها حياته: “أفضل صديق لي ذلك الذي يُجهز عليّ بطلقٍ ناري، عندما أفكّر كم أنا تعس عندما أتأمل انحطاطي وخرابي، عندما أفكّر كم تألمت وفقدت، وبالهم والبؤس اللذين سببتهما لأحبائي، أودُّ لو اختفي في قاع الهاوية، منبوذاً من الله والناس كحثالة المجتمع، يا إلهي، أي وضعٍ رهيب، أليس من فدية للروح الخالدة؟!”..
وخير تعبير عن حياته وشخصيته الأدبية كتبته الناقدة جوزفين بيلادان مضيئة به الوضع الغريب لصاحب “القصر المسكون”: في بيئة الوحوش المفترسة تلك كابد إدغار ألن بو استشهاده الكبير، عاش وعمل في الزاوية الوحيدة من العالم، حيث لا ماضي أبداً، وحيث لا مكان للتأمل العقلاني، مزاج عصبي وسط أناس دمويين، طبيعة عاطفية ما بين واقعين، روح مرهفة وفنانة تصطدم بمجتمع قطّاع الطرق لا تراتب فيه.. لقد بدا كما لو حلت عليه اللعنة في أمريكا..”.. كالنقيصة الأكثر عنفاً للفرد حيال المحيط، وثمة آراء أشدّ قسوة لكل من “مالارميه وشارل بودلير”، ومع أن (بو) نفسه يقول: “الشعر ليس هدفاً لي، بل هوى”.

الخنفساء الذهبية
لقد لاحقت (بو) إرادة قول كلّ شيء، فالمجتمع الأمريكي بقي على بربريته يتجاهله: فقط يتابع ذلك الإعجاب والدهشة التي أثارها شعره وأدبه في العالم، وخاصة في فرنسا..
إدغار ألن بو؛ الذي لم تمنحه الحياة غير أربعين سنة من العمر، قضى معظمها في اليأس والضياع، ومع ذلك كان نتاجه الإبداعي مُتعددًا وثرّاً، وهو وإن بدأ بالقصة، غير أن قلمه كان متنوع النتاجات الإبداعية، ففي سجله الكتابي الكثير من الروايات والقصص القصيرة، وقد تأثر كثيراً بقصص القرآن الكريم وآياته، وهو هنا يُذكرنا بمبدعٍ آخر، على الطرف الثاني من هذا العالم، في روسيا القيصرية، إنه
الشاعر الروسي “بوشكين” الذي تأثر لدرجة كبيرة بقصص وآيات القرآن الكريم، ومن أشهر أعمال إدغار ألن بو: حلم داخل حلم (1827)، تيمورلنك (1827)، الأعراف (1829) وهي قصيدة مبنية على سورة الأعراف من القرآن الكريم.. إسرافيل (1831) وهي قصيدة مبنية على القَصَص الإسلامي، إلى ساكن الجنان (1834)، الدودة الفاتحة (1837) الغراب (1845) إلدورادو (1849) أنابيل لي (1849)، وهي آخر قصيدة كتبها قبل مماته. هذا في الشعر، أما في القصة فله: برميل أمونتيلادو (1846)، انهيار منزل أشر (1839)، القلب الواشي (1843)، الحشرة الذهبية أو الخنفساء الذهبية (1843)، القط الأسود (1843)، بضع كلمات مع مومياء (1845)..
وأخيراً له في الرواية: الليلة الألف واثنين لشهرزاد (1850)، قصة من القدس (1850)، الانزلاق إلى الدوامة (1850)، الثمان أورانج (1850)، جرائم شارع مورغ (1841) ولغز ماري روجيه (1843)..

متجمداً من البرد
دفن إدغار ألن بو في بالتيمور، ماريلاند.. ولا تزال ظروف وأسباب وفاته غير مؤكدة، حيث تمّ العثور عليه في شوارع بالتيمور مخموراً يهذي، “في محنةٍ كبيرة، وبحاجةٍ إلى مساعدة فورية”، ووفقاً للرجل الذي عثر عليه؛ اقتيد إلى كلية الطب في واشنطن، حيث توفى سنة 1849، ومما يُروى في خاتمته أن إدغار آلان بو رائد القصة البوليسية قد مات في أحد الشوارع متجمداً من البرد، ويقال إن بو كان لديه مبدأ أن يعيش من الأدب فقط.. ومن شعره نقرأ:
“جمالك هيلانة بالنسبة لي؛
شبيه بالمراكب المنسية للزمن الغابر
التي كانت تقلُّ بهدوء
فوق البحر المُعطر
المسافر المرهق والمنكسر
نحو شطآن ولادته..”..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار