في يومٍ لـ «صعود المطر» وكـ«نسيم الروح» عبد اللطيف عبد الحميد يترك «بنات آوى» تنتحب في «أيام الضجر»
تشرين- علي الرّاعي:
ربما رحل ليُفتش عن “قمران وزيتونة”، فربما وجدَ نفسه “خارج التغطية”، فشعر أنّ “أيام الضجر” قد حلت، ولاسيما مع رحيل الكثير من الأصدقاء، وقد أهدى آخر أفلامه لأقرب الناس إلى روحه (لاريسا عبد الحميد) زوجته، والشاعر عادل محمود صديقه، وقد رحلا بالأمس القريب.. وها هو اليوم عبد اللطيف عبد الحميد “شغيّل السينما” السورية يتبعهم تماماً كراحلين على رؤوس أصابعهم.. وهم الذين مرّوا على هذه الدنيا كمرور نسائم الصباح، يزرعون ورداً على إيقاع الندى، فنبت الإبداع على شكل سينما وأفلام قاربت المجموعات الشعرية في رقتها..
الحب الوهّاج عند عبد الحميد هو عندما يشرق الحبيب في عينيك قبل أن تشرق الشمس.. هكذا كانت السينما تشرق من عيني عبد اللطيف عبد الحميد في كلِّ أفلامه التي شكلت أسلوباً وعلامة فارقة في السينما العربية..
أفلام مفعمة بالحب، حيث لا يملّ الرجل يوزّع المحبة على مختلف شخصيات أفلامه، وهو يُبعدها عن الشّر المطلق، أو الخير الخالص، وإنما شخصيّات يستنسخها من روحه وحياته كفلاح “يسلخ” فسائل من الجذوع ليُعيد ويغرسها لتُمسي أشجاراً مثمرة في كامل الحقل..
يقول عبد اللطيف عبد الحميد خلال تقديمه لفيلمه “طريق النحل” في حفل افتتاحه في سينما سيتي بدمشق: سئلت، عن ماذا يتحدث فيلمك الجديد?، أجبت: عن الحب الوهّاج.. ثمّ سُئلت: وكيف تعرّف هذا النوع من الحب?، فأجبت: الحب الوهّاج، هو عندما يشرق الحبيب في عينيك قبل أن تشرق الشمس.. وهكذا كانت السينما تشرق من عيني عبد اللطيف عبد الحميد في كلِّ أفلامه التي شكلت أسلوباً وعلامة فارقة في السينما العربية..
حياة واحدة لا تكفي لشخص لصناعة سينما، نقد غالباً ما كان يواجه به صاحب التجربة الأكثر اكتمالاً في السينما السورية، عبد اللطيف عبد الحميد، قد يكون هذا النقد صحيحاً، لو أن ذاكرة هذا الرجل فردية، لا تشابكات فيها مع الآخرين، أو حياة بسيطة لا دراما فيها، مع ذلك أرى أنه حتى مثل هذه الذواكر و الحيوات، فيها من الأحداث، ما يشكّل أفلاماً سينمائية، إذا ما توفر لها مُخرجٌ متمكّن.. فكيف إذا كانت هذه الذاكرة تتقاطع مع ذواكر الآلاف، و ربما الملايين، و ينجدل فيها الخاص بالعام حدّ التماهي، بحيث يستحيلُ التفريق بين ما هو خاص، وما هو عام، ذاكرة جمعية يقدمها عبد اللطيف عبد الحميد كتاريخٍ موازٍ، حاضرٍ بقوة كأنه يجري الآن وهنا..
وعبد الحميد يتمسّكُ بالذاكرة من منطلقٍ إنساني، وإحساسه بالزمن الذي يحمّله شعوراً بالفقد، والسينما كما هو معروف، إبداعٌ ضد الإمحاء، ولاسيما ونحن في العالم العربي، مُصابٌ أغلبنا بما يشبه فقدان الذاكرة المزمن أحياناً، أو على الأقل لا نعرف التاريخ إلّا من وجهات نظرٍ أحادية..!
مع ذلك ليست كل أفلام عبد اللطيف عبد الحميد من الذاكرة، فهو قد أنجز ما يمكن أن نسميه “رباعية مدينة” تحديداً دمشق (صعود المطر 1994، نسيم الروح 1998، وخارج التغطية 2007) ثم كان فيلم ” العاشق” و “خماسية ريفية” تحديداً ريف محافظة اللاذقية، خلال منتصف القرن الماضي (ليالي ابن آوى 1988، رسائل شفهية 1989، قمران و زيتونة 2001، ما يطلبه المستمعون2003، وأيام الضجر2008 ) ثمّ كان (مطر أيلول) إضافة سادسة لأفلامه الريفية، التي تتغذى من الذاكرة.
كما أن عبد اللطيف عبد الحميد لم يبقَ خلف الكاميرا طول الوقت، بل ظهر أمامها ثلاث مرات على الأقل كممثل قدّم خلالها كاركترات لافتة لجهة الأداء والتمكّن من الشخصية، الأولى كانت في فيلم (نجوم النهار) إخراج أسامة محمد، والثانية في الدورة الأخيرة لمهرجان دمشق السينمائي، في فيلم (مرة أخرى) إخراج جود سعيد، ثم كان له دور البطولة في فيلم جود سعيد “صديقي الأخير” في هذا الفيلم كشف عن ممثل كوميدي من الطراز الرفيع، من خلال كوميديا من النوع التي تذهب باتجاه الموقف والمفارقة، التي تُضحك من شدة الألم، ومع ذلك كان التشابك بين مشاهد المدينة والريف واضحاً بحيث يأتي التصنيف هنا، أو لا يعدو أن يكون من باب العام فقط ..
في هذه الأفلام كلها بقي عبد اللطيف حارساً لبوابة الحب، التي يُدخلنا منها إلى عالمه السينمائي، وإن كان الحب المرتبك والمثقل بأطنانٍ من المرارة والألم، تفرضها بيئات هي نفسها تئنُّ من ثقلِ تقاليدها وأعرافها (اقتصادية واجتماعية) بسماتٍ عامة لأفلام هذا المخرج، أصبحت كـ لازمات.. منها أنه مخرج يبدو رحيماً بشخصيات أفلامه، حتى التي تقوم بأدوار “الشّر”، يصوّرهم جميعاً كضحايا ظروف قهر بيئية ومادية وغير ذلك، و هو مخرج لا يغريه النجوم ليحشدهم في فيلمه، أو ليتكئ عليهم، بل الذين يشيلون حمولات الفيلم الجمالية والفكرية، هم ممثلون غير معروفين، أو الأطفال خاصةً الذين لا يخلو منهم فيلم أنجزه حتى الآن، سواء كان خلف الكاميرا، أو أمامها، وتأكيده في معظم أفلامه، ولاسيما أفلام الذاكرة، أو السيرة، على التذكير أن أغلب مآسينا في هذه المنطقة العربية، تحديداً في بلاد الشام، كان بلاؤها يتجسدُ في العدو الإسرائيلي الذي اغتال حتى الحب من حياتنا..
بهذا النتاج يكون عبد اللطيف عبد الحميد المخرج الأكثر شغلاً في ساحة السينما السورية، وعن هذا الكم كان يُجيبنا دائماً: أنا أريد أن اشتغل، ولم آخذ فرصة أحد، ولست مسؤولاً عن تقصير الآخرين، هذا النتاج الذي هو قليل، إذا ماعرفنا إنّ مخرجاً مثل الفرنسي “إيف بواسيه” أخرج أكثر من خمسين فيلماً، وإذا ماعرفنا أن بطاقات الدخول لهذه الأفلام كانت تنفدُ فبل يومين من عرض الفيلم، فإنّ الدعم هنا لا يستحق هذا الغمز، بل يصيرُ الدعم واجباً، إن لم يكن لأجل الشخص، – وهو يستحق- يكون لهذا الجمهور المتعطّش لسينما عبد اللطيف عبد الحميد، ولأجل السينما السورية بشكلٍ عام..!
بقي أن أشير أن المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد، هو من مواليد عام 1954، وكان قد قام بكاتبة سيناريوهات جميع أفلامه التي أنجزها. تخرج في معهد السينما فى موسكو، و قام بإخراج ثلاثة أفلام قصيرة أثناء دراسته.
حصد عبد اللطيف عبد الحميد عشرات الجوائز المحلية والعربية والعالمية ولا يكاد فيلم من إخراجه لم ينل عدة جوائز على أكثر من صعيد، و يعدّ بذلك من أبرز وأهم المخرجين في ميدان الفن السابع في الوطن العربي. فقد نال خمس جوائز عن فيلمه «ليالي ابن آوى»، و أربع جوائز عن فيلمه «رسائل شفهية»، وخمس جوائز عن فيلمه «صعود المطر»، و سبع جوائز عن فيلم «نسيم الروح»، وثلاث جوائز عن فيلمه «قمران و زيتونة»، و جائزة الميدالية الذهبية عن فيلم «ما يطلبه المستمعون» في مهرجان الرباط الدولي، وفاز بجائزة أفضل فيلم آسيوي في مهرجان دلهي عن فيلمه «ما يطلبه المستمعون»، وعن فيلم «خارج التغطية» كما نال الجائزة البرونزية، والجائزة الأولى في ختام مهرجان وهران السينمائي، وحصد جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دمشق السينمائي السادس عشر عن فيلمه «أيام الضجر”، وغيرها الكثير..
عندما سألته، عن أسباب حكاية عبوس الكوميديا هذا الأيام، ليس في الدراما وحسب، بل في مختلف الأجناس والأنواع الإبداعية كافة، وهو الذي يصر على سحب الضحكة حتى ولو من مشهدٍ جنائزي، فكيف تحقق له ذلك؟ يُجيب: ليست لديّ وصفة سحرية جاهزة لصناعة الكوميديا، ربما لدي ما يُشبه النصيحة وهي: كن أنت.. عبّر عن نفسك كما تحس وكما ترى الحياة.. هذه الحياة تقدم لك الكوميديا كما تقدم لك التراجيديا.. لا تفكر في الأمر كثيراً.. لأن واحدة منهما ستختارك أو الاثنتين معاً، فتصنع ما يسمى بالكوميديا التراجيدية.