مشروع دولة و«بزنس فقير»..
مهما كانت خطط وبرامج التنمية محكمةً – في أي بلد، وليس في بلدنا وحسب- سيبقى للمسارات العفوية أو الارتجالية حضورها و حصتها التي تفرض نفسها ولا تقبل التجاهل.
ويبدو ادعاء التحكم المطلق بتنظيم وتوجيه دفّة التنمية قاطبة ارتجالاً يرتّب آثاراً أخطر مما يتوعدنا به الحيز المرتجل أو العشوائي، في كافة أوجه النشاط البشري لدينا.
ولعلّ في ميدان المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وهي بالغة الأهمية في البعدين الاقتصادي والاجتماعي، ما يؤكد مثل هذه الحقيقة.. فبعد أن أتخمتها حكومات سابقة كثيرة دراسة وتخطيطاً وتنظيماً، بقيت حصّة غير المنظّم منها هي الأكبر، وهذا ليس رغبة من المجتمع الأهلي بعدم الالتزام، فلا أحد يرغب بالهروب من “نعمة” مفترضة.. بل هو إلحاح الحاجة، الذي يولّد دفعاً ذاتياً للتنمية بأدوات تركّز كثيراً على النتائج ولا تكترث بالمقدمات “البروتوكوليّة”.
فعلى الأرجح ما ينقص سلسلة حلقات البحث الطويلة والمزمنة أيضاً، هو النزول إلى الميدان وملامسة الوقائع على الأرض، والتواصل مع رواد “المشروعات المرتجلة” لسؤالهم عن نجاحاتهم أولاً، ثم عن أسباب نأيهم وتفضيلهم البقاء في الظل.. عندها سيجد الدارسون أنفسهم أمام معطيات جديدة قد تغير مسارات تفكيرهم.. وربما سيكتشفون أن لا التمويل وحده سبب المشكلة، ولا المشكلة الأساس، على الرغم من أهميته، ولا التراخيص الإدارية تسبب ذلك العائق الذي نتحرّى عنه، على الرغم من أنّها متهم لم تثبت براءته.. ولا نقص حوامل الطاقة.. ولا مجرّد سلسلة منغصات مقيمة ومعلنة للعمل الاقتصادي..بل هناك تفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل دوماً.
فماذا لو همس بعضهم بأنّ المشكلة الأكبر تتمثل بعقدة تعاطي العنصر البشري مع القطاع الممأسس العامل “في النور” عموماً..؟
بعضهم يسميه فساداً.. وآخرون يرونه انحرافاً بسيطاً في السلوك الوظيفي.. لكن لا أحد ينفي أنّ نسقاً طويلاً عريضاً من موظفي دوائر ذات صلة بتنظيم و تخديم ومتابعة مطلق منشأة عاملة خارج نطاق الظل، يرتبون “نفقات نثرية” تشكل كتلة إنفاق كبيرة غير ظاهرة إلّا لصاحب المشروع ذاته..ولعلّنا لسنا مضطرين لذكر أيّ جهة إدارية أو رقابية أو خدمية لأن الجميع لديه إلمام بالشكل العام لهذه المعضلة… وإلّا ما هو سبب مبادرة أصحاب مشاغل أو ورش صغيرة، إلى إغلاق أبواب ورشاتهم المرخصة “وهي مشروعات صغيرة” ونقل معداتها إلى أقبية في مناطق سكنية، و يجيرون إنتاج الظل لورشاتهم المرخصة؟
دعونا نعترف إذاً، بما أن الاعتراف بالمشكلة هو بداية الحل..لدينا مشكلة كبيرة قوامها الاقتصاد الأسود، الذي يستحوذ على نسبة كبيرة من المساحة الأفقية لاقتصادنا، اقتصاد معظم مكوناته من النوع الصغير والأصغر، قطاع يشغّل عدداً كبيراً من العمالة، ويعيل عشرات آلاف الأسر من خلال فرص عمل مباشرة أو غير مباشرة..
مشكلتنا مع قطاع “البزنس الصغير” ليست مستحيلة الحل، وإن كانت صعبة إلى حدّ ما..
فهي تحتاج إضافة إلى كافة أشكال الدعم الجاري دراستها حالياً، إلى تحصين ضد تطاول موظف يعتد بسلطة جهة حكومية ما لممارسة ابتزاز من مختلف الأشكال، وليكن أيُّ بلاغ من صاحب مشروع صغير، كافياً لتحريك دعوى قضائية مستعجلة ضد من يحاول ابتزازاً أو تعسفاً باستخدام سلطة القانون..فنحن على يقين من أن الجزء الأكبر من المشكلة سيحل عندما يدرك الجميع أن “بزنس الفقراء” خط أحمر.
نعم خطّ أحمر.. لأنه مشروع دولة ومواطن..لا استثماراً ترفياً يلهو به أصحابه لمحاربة أوقات الفراغ.