أصعب الملفّات وأسهلها
نتفهّم أنّ القرارات الجراحية ليست ذات شعبية، في أعرافنا و أدبياتنا نحن السوريين، كما كل هذا الشرق الشغوف بالعواطف والمسلّمات والشعارات التي تسللت إلى قائمة الثوابت المحفوظة في قائمة الوجدان، لكن ماذا لو كان لابدّ من الجراحة..عندما تكون الأخيرة طريقاً أحادية وممراً إجبارياً للتعافي ؟؟
لكنّ جرأة الحكومة الجديدة -كانت لافتة- في المقاربة الجراحية لملفات مؤجّلة على الرغم من أنَّها استحقاقات معظمُها مستعجلٌ، وهي في الواقع مواجهةٌ ستكون حافلةً بالجديد، وانعطافة أجّلتها الحكومة السابقة بشكل غير مفهوم، ودفعت بها لتكونَ في ذمة المستقبل.
والواقع أنَّ الملفاتِ الساخنة متعددةٌ وكثيرة، بل وتتزاحم على قائمة الأولويات أمام من يحاول ترتيبها.. لكن على الأرجح لن نكون متسرّعين لو وضعنا ملف القطاع الصناعي أولاً، بما أنَّ الصناعة «قاطرة التنمية».. هكذا كانت ولا ندري إن بقيت تحتفظ بمثل هذا التوصيف بعد متوالية انكسارات لحقت بها.
ولعلّه من البدهي أن تتجه الأنظار اليوم نحو «مقصورة الإدارة» في هذا القطاع، لمراقبة ما سيرشح عنها في سياق الجراحات المنتظرة التي تصدت لها الحكومة في بيانها مؤخراً.. وأي ترتيب ستختاره للبدء.. هل ستتولّى إعادةَ إحياء المنشآت المدمَّرة.. أم ستحاول إنعاش الأخرى الخاسرة والجاثمة على صدر الحكومة والدولة والمواطن في المحصّلة، أم ستغوص إلى عمق الشركات التي تزعم ربحاً على طريقة «حسبنا أن ننجو من اللوم».. وأعلنت عن أرقام هي «فرنكات» في حسابات هذا الزمن، ومقاييس النسبة والتناسب بين الكتلة الرأسمالية الموظّفة فيها، ودوران السيولة على مدار عام كامل..؟
أي؛ ماذا ستفعل الوزارة في منشآت بدا الرابحون الحقيقيون فيها من تولّوا إدارتها، هم ومن يكملّهم في حلقات الفساد المُعلن الذي أنهك منشآت «حلم الريادة» القديم.
أصعب ما في المهمة الخاصة أمام الحكومة فيما يتعلق بمعالجة أوجاع الجسم الصناعي الحكومي، هي أنّ أيَّ بداية تختارها ستكون صحيحة، والصعب أكثر أن تتجرأ وتختار الشركات التي تزعم أرباح بـ ” الفرنكات”، على الرغم من أنَّ خيارها سيكون صحيحاً بالمطلق، لأن مثل هذه الشركات هي- وليس سواها- القابلة للاستثمار بالتشاركية مع القطاع الخاص، والذي نحن على يقين من أنه سيعطي الخزينة العامة أضعافَ أضعاف ما تزعم ربحه، مع الارتقاء بأوضاع العمالة، كما الارتقاء بخطوط الإنتاج..
هي وجهة نظر لن تكون ذات شعبيّة في أوساط المتعلّقين بالشعارات البائدة، وبعضهم من هواة المزاودة ممن يملكون قولَ لا أو نعم.. لكن من دون أن تكون لديهم الحجّة للتبرير، ولا في أوساط الفاسدين المستفيدين من «الكوارث» المقيمة, الذين سيبدون شراسةً غير تقليدية في الدفاع عن مكتسباتهم التي سيسمونها مكتسبات الطبقة العاملة ومكتسبات وطن بالعموم.
وسيوافقنا الرأيَ كلُّ من يطّلع على حصاد نتاج الوزارة في أي عام، فنحن من جهتنا اطلعنا على أحدث نتائج جاهزة وتخصّ العام 2022، وكانت الأرقام صادمةً بل وقاهرةً بالفعل.. بضعة مليارات قليلة ربحتها مؤسسة- على زمن المؤسسات- تشرف على عشرات الشركات.. وكانت صدمتنا كبيرة بمؤسسة التبغ، و«الصناعات الغذائية» من شركات المياه المعبأة إلى الألبان إلى عصير العنب.. ثم «مؤسسة» شركات صناعة الإسمنت، وكافة الشركات التي تدّعي الربح وتفاخر بها الوزارة، فأي أرباح تلك التي تجرأت الإدارات على توثيقها؟! تساؤلات ملحّة تقفز إلى ذهن أي متابع يتوخى قدراً يسيراً من الموضوعية..؟
نحن بحاجة إلى جرأة حقيقية في مقاربة ملف الصناعة.. فلا منشآت رابحة في الحسابات الاقتصادية الحقيقية، والخاسر غالباً هو مخسّر بسوء الإدارة والأرجح بسوء الائتمان.. وللمدمَّر حديث آخر.
لدينا في سورية القانون رقم 3 وهو في الواقع «كنز» لمن يمتلك الرؤية لاستثماره.. ولعلّ القطاع المرشح أكثر للاستفادة مما أتاحه القانون من آفاق هو وزارة الصناعة، التي آن الأوان لتكون وزارة سياسات تنظم القطاع بعامّه وخاصّه، لا رجلاً عجوزاً يملك مقدرات هائلة منهوبة ومهدورة.