الاستثمار في القطاع الصناعي توجيه دفة الاقتصاد السوري نحو الاقتصاد الحقيقي.. وتعديل سياسة الأجور بعيداً عن الإبحار في تيار الاقتصاد النقدي

تشرين – حيدرة سلامي:

تستحوذ الشركات الصناعية والتكنولوجية على قرابة ٢٢% إلى ٢٧% من القيمة السوقية لأسهم الأوراق المالية العالمية، وهي تشكل بذلك ربع الإنتاج الإجمالي العالمي، وهو الأمر الذي يعتبر أحد أهم ضمانات التنمية الاقتصادية في العالم المعاصر، كما يعتبر القطاع الصناعي عالمياً، هو القطاع الأكثر استيعاباً لأعداد الأيدي العاملة.

 

الاقتصاد الحقيقي

يشهد العالم اليوم قفزات عملاقة في مجال الاقتصاد الصناعي على عدة جهات من العالم، فالعالم بدأ في التوجه نحو اعتماد الاقتصاد الصناعي في توجيه الاقتصاد العالمي، حيث إن حساب متوسط الناتج والنفقات في الاقتصاد الصناعي، هو المعادلة الأكثر استقراراً في حساب متوسط الناتج المحلي الإجمالي للدولة أو الشركة أو المشروع قياساً إلى الدخل والأرباح الحقيقية، كما يتم تنسيب الاقتصاد الصناعي والزراعي عادة إلى فئة الاقتصاد الحقيقي، لا الاقتصاد المالي، والاقتصاد الحقيقي هو الذي يعرف بأنه قدرة الدولة الحقيقية في ثرواتها وصناعتها وخدماتها وغيرها، دون وسطاء ودون قيود سياسية وحكومية، بل صافي هذه الموارد والخيرات.

متوسط الناتج والنفقات في الاقتصاد الصناعي هو المعادلة الأكثر استقراراً في حساب متوسط الناتج المحلي الإجمالي للدولة أو الشركة أو المشروع قياساً إلى الدخل والأرباح الحقيقية

وفي الاقتصاد الحقيقي يتم حساب تكلفة شراء المواد أو استخراجها أو تحويلها، ويتم أيضا احتساب معادلة جهد الموظفين والعاملين وحصتهم العادلة من هذه الأرباح، حيث إن الاقتصاد الصناعي بات الأكثر اقتراباً من تحقيق الاقتصاد الحقيقي في توزيع الدخل والأرباح بين المستهلكين و المنتجين، بشفافية أعلى وأكثر انتظاماً من أنواع الاقتصاد الأخرى كالاقتصاد الخدمي والتجاري وغيرهما، إذ يتم احتسابه نسبة إلى الوحدات والوزن الحقيقي للمواد وتكلفة تحويلها، فالاقتصاد الصناعي يستند في إنتاجه إلى حساب طبيعة المادة ووزنها، ولهذا السبب لديه ضمانات آنية وواقعية في اكتشاف التلاعب، حيث يعتبر فيه الغش والتلاعب أمراً صعباً، وهو أمر غالباً غير ممكن في أنواع الاقتصاد الخدمي الذي يستند إلى القيمة السوقية، التي يعطيها التجار والمستهلكين لهذه المادة، ويخضع بذلك لاعتبارات مالية وبشرية، لا يمكن حسابها في معظم الأحوال على وجه الدقة والشفافية، و ذلك بسبب وجود ضمانات السرية التجارية والمصرفية وغيره، ولذلك تعاني الدول التي تسير في اقتصادها على هذا النوع من الأنشطة الخدمية، من الهدر وعدم الاستقرار، في توزيع الدخل على الأفراد، بينما امتازت الدول التي اعتمدت على القطاع الصناعي في تغطية إنتاجها الداخلي والخارجي على أرقام مضبوطة في عملية حساب الناتج الإجمالي، كالصين وتايوان وماليزيا، ماساعدها في تحرير موادها وثرواتها من عقبات المستغلين والمضاربين والوسطاء داخل السوقين الوطنية والعالمية، و وجههم للسير في بناء اقتصادها الحقيقي الأكثر شفافية وديمومة، حيث إن الصناعة المتينة تعد خط الدفاع الداخلي الأخير في وجه الحروب الاقتصادية الممنهجة، في العصر القائم.

قاعدة إنتاج مستقرة

وتعتمد الدول التي تسير في تطبيق مبدأ السياسة الصناعية، بنظام يقوم على توفير الحاجات الأساسية ولوازم الحياة وتصريفها للمواطنين، دون الاعتماد على النظام الورقي الروتيني المبالغ به، في ضبط حركات المواد واستيفاء رسوم وهمية عليها، الأمر الذي يؤدي إلى تقنين توزيعها على المواطنين فتصبح هذه الثروات والمواد، بعيدا عن متناول إرادة الشعب و الصناعيين، ونجد بذلك إذاً أن الاقتصاد الصناعي هو الأكثر قدرة على منح قاعدة انتاج مستقرة للاقتصاد الوطني.

الابتعاد عن النمط التقليدي في الأجور 

طرح “جون مينارد كينز” في كتابه «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقد»، فكرة عن تكوين الدخل الحقيقي لا الدخل النقدي، وذلك أثناء فترة الكساد الكبير، التي تكدست خلالها البضائع الوطنية، وبدأ في عام 1929 واستمر حتى أواخر الثلاثينيات، وفي أثناء تلك الفترة شهد العالم ارتفاعاً في نسبة البطالة والعزوف عن العمل، تخطت الـ 33% في معظم أنحاء العالم، وقد حصلت هذه النسبة نتيجة إلى سياسة الأجور المتدنية وساعات العمل الطويلة وغير المجدية آنذاك.

الصناعة المتينة تعد خط الدفاع الداخلي الأخير في وجه الحروب الاقتصادية الممنهجة في العصر القائم

ووفقاً للنظرية التقليدية في الأجور والتي كانت سائدة وقتها في الغرب، واليوم في بلادنا، فإن النظرية التقليدية تحدد الأجور، على أنها اتفاقيات عقدية بين العمال وصاحب العمل.

وهذه الاتفاقيات النقدية لا تخدم هدف الاقتصاد والعمل، حيث إنها لا تؤدي إلى إحياء حركة السوق العادلة، وبرأيه فإن عقود الإدارة تنص على أجر نقدي بدلاً من أجر حقيقي، واعتمد بذلك على مبدأ ثابت، يمكن أن نقيسه على ما يعاني منه الاقتصاد السوري في الوقت الراهن.

حيث تفترض النظرية التقليدية، أنه في حال وقوع خطب ما في الاقتصاد المحلي ما يتطلب زيادة الأجور، فإن كل زيادة دورية على الأجور، سترتفع معها تكلفة الإنتاج، ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة نفسها، أي يتكرر العجز نفسه في الدورة الاقتصادية، السابقة واللاحقة، بل حتى توجد عجزاً جديداً، لذلك فإنه بتغيير الأجور النقدية ستتغير معها الأسعار النقدية، مسببة بذلك عودة الأجر الحقيقي كما كان من قبل الزيادة.

وفي حالة تكرار هذه الزيادة في الأجور النقدية دون طائل، فأنت تزيد عندها حجم العجز النقدي على العامل، إذ إن نسبة كتلة الأموال أو النقد التي يتم إلحاقها بالأجور، تقلص قيمة الأموال التي قد ادخرها، وتقلص قيمة أجره الأساسي، فتتناسب عكساً مع قيمة الدخل، وطرداً مع قيمة السلع، وفي تكرار هذه الزيادات، عدة مراة، يتضاعف العجز، ويتشكل التضخم ويخسر النقد قيمته، وتزداد جراء ذلك الفجوة، بين قيمة السلع الاسمية، وقيمة السلع الحقيقية، التي تبعد النظام النقدي عن القيم الحقيقية للسلع، فتصبح الكثير من السلع والمواد غالية على المواطنين نقدياً، في حين أنها متوافرة مادياً للجميع، وليس هناك نقص يدعو إلى ارتفاعها، ولكن حاجة المواطن تتحول من حاجته لهذه السلعة إلى حاجته إلى النقد.

بين النقدي والحقيقي

توقف الحكومات عن إصدار الأوراق التي تمنح الأذونات بالإنفاق ( الأوراق المالية)، وتمنح الأوراق والأذونات التي تسمح الإنتاج ( التراخيص الإدارية)، إن سير سياسة الدولة بالاتجاه النقدي في الاقتصاد، ومن خلاله يتم دعم الاقتصاد النقدي عن طريق طبع الأموال وتقديمها للبنوك وزيادة التضخم، لكن من الأفضل أن تسير في طريق الاقتصاد الحقيقي، وتدعم العمالة والصناعة وتسهل لها الإجراءات القانونية اللازمة، فكما يمكن أن تحرر الدولة الكتلة المالية بزيادة النقد، يمكنها أن تقوم بتحرير المواد والمشاريع الصناعية من القيود الإدارية والسياسات المالية والجمركية، وإنهاء دور الوسطاء واللوائح الإدارية في تجميدها واستيرادها، لتكون بين يدي المواطنين بأبسط الطرق وبأقل التكاليف، بينها وبين المواطنين، سواءً من ناحية استلام الصناعيين وحصولهم على الطاقة أو المواد المطلوبة لإنجاز العمل دون عوائق، وهي بذلك تحرر المواد والسلع، من الاقتصاد النقدي، وترفع من إنتاج الاقتصاد الحقيقي للمواد، لمواجهة متطلبات الفترة الزمنية، وهي بذلك تزيد الإنتاج وتوقف التضخم.

كما يمكن للدولة أن تحرر الكتلة المالية بزيادة النقد.. يمكنها أن تقوم بتحرير المواد والمشاريع الصناعية من القيود الإدارية والسياسات المالية والجمركية.. وإنهاء دور الوسطاء واللوائح الإدارية في تجميدها واستيرادها

سوق الأوراق المالية

لقد حان الوقت لإدخال الشركات والمشاريع الصناعية ضمن سوق الأوراق المالية، وتفعيل مصادر دخل جديدة، يرى كينز أن دخلاً واحداً من عقد العمل، هو غير كاف في الأوضاع الاقتصادية الحرجة، ويعزو ذلك إلى كون المال النقدي يكون دون قيمة ثابتة، فعوامل التأثير فيه كثيرة وهو بكل الأحوال ليس منضبطاً، ولذلك يرى كينز وجود أن يقوم الفرد بتفعيل أكثر من مصدر دخل واحد، حيث  اقترح بديلاً عن منح الدخل، حيث قارن مستويات الادخار ومستويات الاستثمار لدى المواطنين، ورأى أن الدخل يجب أن يمنح تحت مستوى لا تكون فيه الرغبة في الادخار أكبر من الحافز للاستثمار.

وفقاً للنظرية التقليدية في الأجور فإن الاتفاقيات النقدية لا تخدم هدف الاقتصاد والعمل حيث إنها لا تؤدي إلى إحياء حركة السوق العادلة

وهو ما يقوم عليه الكثير من المستثمرين والمتداولين في سوق الأوراق المالية اليوم، حيث تعتبر الاستراتيجية الصناعية المتبعة اليوم، في سوق الأوراق المالية العالمي البورصة، أحد أهم أساليب التطوير الصناعي والمالي والخدمي، فقد تغلبت ألاف المشاريع الصغيرة على موضوع نقص التمويل في السير في أسلوب الاستثمار الصناعي، حيث تطرح الشركة المستثمرة مشروعها على الملأ وتطلب من الناس أن يقدموا استثماراتهم لتبني هذا المشروع، وبذلك تطرح الشركة حصصها السهمية ويشتري المستثمرون المهتمون هذه الأسهم ويدخلون شريكاً مستثمراً ومنتجاً مع الشركة، فحسب نظرية سوق الأوراق المالية فإن جميع سكان الأرض هم جزء من منظومة سوق التداول، ولكن المشكلة الحقيقية في أنهم مستهلكون وليسوا مستثمرين، وعندما يشتري الأفراد الأسهم التجارية للشركات الصناعية، فإنهم بذلك يشترون حصة من المصنع الذي يقوم بإنشاء السلعة، وبذلك يساهمون في الإنتاج الكلي والجزئي، وفي هذه التحركات الاستثمارية يصبح الأفراد مستهلكين ومنتجين في نفس الوقت، فيرتفع نصيبهم بالأسهم في شراء سلعة معينة، ما ينعكس على دخلهم الحقيقي.

تعزيز قاعدة التمويل

وبهذه المعادلة فإن إدخال المنظومة الصناعية من مصانع ومعامل ومشاريع بأشكالها المجردة، في سوق الأوراق المالية دون وسيط، يعزز في تمويل القاعدة الصناعية في بلادنا، فحين دراسة سوق الأوراق المالية السورية نحن نجد نقصاً كبيراً في الشركات الصناعية التي أدخلت أسهمها للتداول الوطني، ما يعتبر ضعفاً كبيراً في قوة البنية الصناعية لهذه المعامل والشركات والمنشآت، وإذا ما أردنا أن نقوم بمعادلة تقريب الاقتصاد الحقيقي بين المادة والمواطن، فلا بد من منح الشركات الصناعية الرخص والتسهيلات للتسجيل في سوق الأوراق المالية الوطني، لاسيما إدخالها للسوق كمعامل إنتاجية بشكلها المجرد دون حاجة إلى وساطة شركة بينها وبين سوق الأوراق المالية، أي تشجيع الشكل المستقل للمعمل أو المنشأة الصناعية في أن تقدم إمكاناتها للاستثمار وأن تعرض مشاريعها للتمويل.

إدخال المنظومة الصناعية من مصانع ومعامل ومشاريع بأشكالها المجردة.. في سوق الأوراق المالية دون وسيط يعزز من تمويل القاعدة الصناعية في بلادنا

وبذلك نرى أن كينز يتجه في أن الدخل العادي ولو كان ضخماً فهو ليس قادراً على أن يحتفظ بقيمته دوماً، بل لا بد من مصدر دخل بديل هو الاستثمار أو أي تشغيل آخر، فتعدد مصادر الدخل يخرج الفرد من مسألة التأثر النقدي، و يدخله في السوق الحقيقية حيث يصبح دخله حقيقياً.

الأجور الحدية ودور الحكومة والمستهلك في الحد منها 

عندما تقوم حكومة ما، بدعم سلعة معينة داخل السوق كمادة الخبز أو المحروقات، أو بقطاع خدمات معين، والكهرباء والماء، فإنها بذلك تهدئ من القلق الشعبي إزاء هذه المواضيع، وهي بذلك تجعل الصناعيين والعاملين ضمن هذه المجال والخدمات كموزعي مادة الخبز، أو عمال صيانة الكهرباء، وغيرهم، يحصلون على الأجور الأقل، رغم أن سلعهم أو إنتاجهم يخدم أحد أهم القطاعات الإنتاجية داخل الدولة، وعلى عكس ذلك فإن السلع الكمالية والعاملين في سوقها، كعمال صيانة الأجهزة الإلكترونية، أو عمال تزيين وإكساء الشقق، يحصلون على أجر أعلى بكثير من العمال الذين يعملون في إنشاء البنى التحتية للبناء، وذلك يعود إلى أن عمال إنشاءات البنى التحتية، وإن كانوا يعملون لصالح جهة خاصة فهي قد تكون جمعية خاصة أو غيره، فإن تكلفة المواد الإنشائية تكون مدعومة عادة من قبل الدولة في المشاريع السكنية، بينما يعمل عمال التزيين والإكساء لصالح جهة خاصة، وهي أصحاب البيوت الذين لا تعتبر أموالهم مدعومة من قبل الدولة، والسبب في هذه الظاهرة هي أن الحكومة عندما تقدم الدعم لصالح المواطن في سلعة أو مادة معينة، فإنه لن يعود في حالة القلق تجاه هذه المادة أو توفرها، وبالمقابل فإنه لن يهتم حينها بالدفع في سبيل الحصول عليها, ما يعرف بقاعدة الحدة التجارية، فالمستهلكون يدفعون اسعاراً أعلى لناحية السلع التي تجعلهم مرتاحين آنياً، ولذلك تدفع الشركات والمؤسسات أسعاراً أعلى في بعض الأقسام من بعضها، فضمن قسم التسويق يحصل العاملون على أجور أعلى من قسم الدراسات وقسم الإنتاج، حيث أن المستهلك يهتم فقط بالشرح عن السلعة، ومظهرها الخارجي، دون التصميم والجودة في معظم الأحيان، وهو الأمر الذي دفع الكثير من اليد العاملة الخبيرة للخروج من منظومة العمل الحكومي والخاص، وإلى ارتفاع البطالة، عوضاً عن توجيه الجيل الجديد من القوى العاملة، في تيارات الاقتصاد الكمالي لا الإنتاجي، فخسرت الصناعات الوطنية الكثير من الخبرات الإنتاجية، نتيجة لهذه السياسات في منح الأجور.

إذا ما أردنا أن نقوم بمعادلة تقريب الاقتصاد الحقيقي بين المادة والمواطن فلا بد من منح الشركات الصناعية الرخص والتسهيلات للتسجيل في سوق الأوراق المالية

منظومة الإصلاح الصناعي

وأخيراً نسلط الضوء على حاجة المجتمع السورية الماسة للسير في منظومة الإصلاح الصناعي وتعديل سياسة الأجور، وذلك أولاً خارجياً، لإنشاء بيئة عمل مناسبة لعودة المغتربين وأصحاب الخبرة الخارجية إلى ديارهم، وإعادة استثمار خبراتهم ضمن إمكانات صناعية متوفرة، وثانياً داخلياً فإنه نتيجة الحصار الاقتصادي الخانق ونتيجة هجرة اليد العاملة الكبيرة للخارج، فالإنسان المنتج الذي لا يستطيع أن يستثمر علمه في منظومة المنشأة الصناعية القائمة، هو خسارة كبيرة للاقتصاد الوطني، حيث أنه بإجماع العلماء والاقتصاديين هو ثروة الشعوب والأمة “أدم سميث”، وإن عدم إنفاق الملايين لاستثمار المنتجين خوفاً من الإنفاق الآني، لا يبرر خسارة المليارات اللاحقة لهذه الهجرة، حيث إن الإنسان المنتج المقيم على أرض الوطن هو دائماً الاستثمار المضمون لبلاده.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار