مسلسل “ولاد بديعة”… هل التجاور بين الهزلي والتراجيدي هو قدرنا؟!
تشرين- جواد ديوب:
شكلت الأرض الخلفية التي عمل عليها الكاتب “علي وجيه” في مهنة الصحافة الاستقصائية، مع الاحترافية الدرامية لدى الفنان “يامن الحجلي” توليفةً ناجحة في الكثير من المسلسلات التي عملا عليها معاً منذ بداية مشوارهما الدرامي، خاصة مع “نهفات” يؤدّيها أو يرتجلها “الحجلي” في دور “ياسين” -والتي يخشى عليه من الوقوع في مطب تكرارها- أضفت طرافة محبّبة على مَشاهِدَ يختزنُ بعضُها قسوةً وألماً، في مسلسلهما الحالي “ولاد بديعة”، كما لو أنَّ التجاورَ بين الهزليّ والتراجيدي هو قدرُ تلك الشخصيات، بل هو قدرنا نحن المشاهدين/الناس الواقعيّين الواقعينَ تحت مقصلة “صراع الإخوة” منذ “قابيل وهابيل” إلّا أننا نحاول الهربَ من تصديق أننا أبناء القاتل بمجرّد أنْ “استعرنا” ثوب العفّة و”تمكيجنا” بابتسامات المجاملة وتفوّهنا بكلماتِ التديّن غير الصادقة!
كما يلفت الكاتبان اهتمامنا أحياناً -وعلى هامش الأحداث الرئيسة- إلى موضوعاتٍ خطرة تمرُّ بشكل عابر، مثل “تلويث نهر بردى” بآثار الدباغة والدماء ومخلفات جلود الحيوانات المذبوحة، أو تُقدّم لنا بشكل كان من الممكن الاشتغال عليه أكثر لولا أن المسلسل جنحَ نحو الخطوط النفسية الاجتماعية و”أهمل” الخيط البيئي وهو لا يقل في كارثيته عن سوسِ المشاكل الاجتماعية والنخور الموجودة لدى شخصيات العمل، والتي جعلتهم عنيفين بالشكل الذي ظهروا فيه.
عنفٌ على مدار حلقات المسلسل (نحن الآن في الحلقة الخامسة عشرة) يكادُ يطولنا نحن المشاهدين، عنفٌ يمكن فهم بعضه على أنه السيرورة الطبيعية لأفعال الشخصيات التي عاشت في منابت السوء والحرام، وتشرّبت من مصلِ الحقد المتبادل والتنافس القاتل، ولكنه يصبحُ في بعضه الآخر طاغٍ إلى درجةٍ تطيحُ بفكرة “الحاجة الروحية للتطهير” والتي قالها “أرسطو” عن الغاية من الفعل الدرامي “التراجيدي” وآثاره “الإيجابية” من خلال تحرير ذاكرة المتلقي من مشاعر الخوف، وتجاوز عقدة الذنب الناتجة عن كسر المحظورات، عبر التحديق المتمعّن في الكارثة المرتكبة ونتائجها المأساوية!
لكن “الكاركترات” التي يسعى المخرجون والممثلون -في كل موسم رمضاني- أن يضيفوها إلى أعمالهم ومسيرتهم صارت كما لو أنها “لازمة” من لوازم الأعمال الدرامية، بعضُها نشعرُ بأنه مُقحَمٌ على جو العمل أو المشهد، وبعضها -على صغر حجم الدور- أصبحَ “كاركتراً” لا يُنسى بسبب براعة الممثل، كما فعل الفنان المدهش “محمد حداقي/أبو الهول”، أو “وسام أيمن رضا” بدور “سيكي”، أو كما فعلَ الممثل “رامز أسود” في تقديمه شخصية “وفا” بخفّة دم استطاع بها أن يتجاوزَ أسلوبه القديم عند تقديم شخصية الشاب اللعوب المخادع، إلى أسلوبٍ يُذكرنا بالشخصية التاريخية الشهيرة لـ “القبضاي أبو عنتر/الراحل ناجي جبر” خاصةً بطريقة نطقه المتشابهة، ونفحة الطرافة المهضومة، تساعده في نشر عبقها طبيعةُ دور “وفا” كمغنٍّ من الدرجة الفاشلة لم يتمكن من أن يرثَ جمالَ صوت والده “أبو الوفا/الفنان تيسير إدريس” في محاولة منه لاقتحام عالم الفن من باب الثراء الخليجي، ولا هو تمكّن من أن يخطو في عالم الدبّاغين بروائحه وكوارثه، فبدا عرَجُ شخصيته مثيراً للضحك أكثر مما هو مثيرٌ للغضب ضد أدعياء الغِناء والموسيقا أصحابِ “الأورغات” الزاعقة والأصوات النشاز.
كما أن الأداء المذهل للممثلين النجوم جميعاً، مع الأطفال الموهوبين، ذابَ في “سيمفونية درامية” قادتها المخرجة “رشا شربتجي” لدرجة أن الحدود بين اشتغالهم على أدوارهم وبين “إدارة الممثل” من قبل المخرجة انمحت لصالح متعة في الفُرجة عندنا، ورغبةٍ في انتظار المزيد من الحبكات والأداء “السينمائي” العالي، لولا في الحقيقة بعض “هفوات إخراجية”، منها صغيرٌ يمكن التغاضي عنه، ومنها كبيرٌ للأسف قلّلَ من الاحترافية الإخراجية، وكسرَ السيرورة “الواقعية” التي يحاول أن يقنعنا بها المسلسل، وبالتالي جعلنا نحسَبُ أن هناك استسهالاً فيما تُخلِّفه هذه الأخطاء من خلخلةٍ لانطباعاتنا الجيدة عن المخرجة اللامعة، وعن الإضافات -الكلامية أو الجسمانية- التي يبدعها ويجود بها نجوم العمل، من تلك الأخطاء مثلاً: مشهدُ إطلاق النار على “شاهين” من قبل “أبو هديل” من دون أن ينتبه أي من الناس أو الجيران أو رجال الشرطة أو الأمن إلى صوت الطلقة المدوّي في ليلِ مدينة مثل دمشق يمكن لصوت “فتّيشة” فيها أن تجمعَ عشرات المارين أو أن تُحدث بلبلةً على الأقل عند سكان البناية المجاورة في حارة مثل تلك التي يسكن فيها “شاهين”!
كما بدت معظم مشاهد المسلسل كما لو أنها تحدث في مدينة معزولة عن الناس، إذ لا نكاد نلمح أي وجود لبشر عاديين إلى جوار الممثلين إلّا في مشاهد الدباغات القديمة، وضمن الكازينوهات، لدرجة أن مشهد الصراع بين رجال “ياسين وشاهين” الدباغين ورجال “أبو الهول” في وضح النهار ومع كل تلك الأسلحة وسكاكين الذبح وسواطير التقطيع…
مرّ هكذا بكل بساطة كأنه “لعبة حرب” عند مراهقين يمثّلون أنهم يتصارعون وسطَ الشارع… ثم “قطع/Cut” انتهى تمثيلُ أنهم “يمثّلون” وكل واحد ذهب إلى بيته!
أمّا تقطيع السيناريو -في كل حلقة- بين مَشاهِد حدثت في الماضي، ومَشاهد تحدث في الحاضر فقد كان تقطيعاً موفقاً، إذ حتى لو بدا أن “لعبة الزمن” العبثية تجعل منهما خطين متوازيين، إلّا أن “لعبة الحياة المريرة” أو دراما الحياة الواقعية جعلت دماملَ الماضي تنفقئُ في الحاضر وتملأ حيوات الشخصيات بدماء الضغينة وقيح الغيرة والكراهية!
الخطوط الدرامية لمسلسل “ولاد بديعة” كثيرة ومتشعبة، والحكاية/الحكايات متداخلة ومشغولة -برأينا- باحترافية تتجاوز مجرد الرغبة في أن يكون المسلسل مجرد “تريند” رمضاني مؤقّت، أو استعراضٍ إخراجي أو تمثيلي عند نجوم سوريين يثبتون لنا في كل موسم أن ما يُشتغل عليه بصدق وإخلاص واحترام لعقل المشاهدين، يصل إلى قلوبهم بشكل محبب، ويدوم في ذاكرتهم طويلاً.