«مرجل الزيت» … حكاية كاهنٍ يُفشي سرّ الاعتراف
لبنى شاكر:
ربما لا تكون “مرجل الزيت” الحكاية الأشهر للكاتب الإنكليزي ويلكي كولينز (1824-1889)، ضمن نتاجه الموزّع بين الروايات والقصص القصيرة والسير الذاتية، والتي تُصنّف بالمُجمل ضمن أدب الغموض والإثارة، حيث الكثير من الرعب والخوارق، لكن أحداثها التي شهدتها قرية “كروا دوراد” في مدينة تولوز الفرنسية، تجعل منها حكايةً مختلفة، خارجةً عن النسق الذي عُرِف به الكاتب عموماً، حيث يبتعد في تفاصيلها عن الخيال العنيف والعجائبيات غير العقلانية والمخلوقات الشبيهة بمصاصي الدماء والأشباح، نحو وقائع لها جذرٌ تاريخيٌّ معروف، إلى جانب تداعياتٍ منطقية، تبدأ وتتوالى من دون أن يشعر القارئ بإقحام ما هو مُنافي للعقل.
في “مرجل الزيت” تحتل شخصية الكاهن “شوبارد” المساحة الأوسع، فهو كما يصفه الكاتب حيّ الضمير على نحوٍ صارم في أداء واجباته، محترم ومحبوب من زملائه ومعارفه، الذين يبرز من بينهم “سيادو” صاحب معمل تصنيع الزيت. وفي حين تذهب بنا المجريات نحو شقيقته الأرملة “ميرالي”، التي ترفض الزواج رغم كثرة المُتقدمين لها، رغبةً منها في أن تذهب ثروتها إلى أخيها وأبنائه، إلى أن تُغيّر رأيها مع محاولات تاجر اللحوم “كانتغريل” كسب ودّها، ما يعني فرصاً أقل بكثير في تحسين أوضاع “سيادو”، إذ يجد نفسه مُضطراً لإيقاف مشروع الزواج قبل أن يُصبح أمراً واقعاً.
وعلى عادة الناس في القرى الصغيرة، يُفكّر “سيادو” أنّ لدى الخاطب الجديد، سراً ما، يعرفه لا شك أهل قريته “ناربون”، حيث سيُسافر باحثاً عن أية فضيحة أو إشكالية، تُقلل من مكانته عند “ميرالي”، وهنا تحديداً، تأخذنا الأحداث نحو الكاهن “شوبارد” الذي يتلقى اعترافاً غير اعتيادي بجريمةٍ مُقززة، إلى أن يتبين لاحقاً، أن صاحب الاعتراف هو “كانتغريل”، بعد أن نجحت مساعي “سيادو” في نبش ماضيه، وكأنّ الكاتب ينقل حكايتين مُتوازيتين، تلتقي فصولهما عندما يُواجه الكاهن اتهام أبناء “سيادو” بمعرفة قاتل أبيهم والتستّر عليه، وما بين تهديده بالرمي في مرجل الزيت أو مواجهة عقوبة الكنيسة، التي تمنع البوح بما يُقال تحت قَسَم الاعتراف، يعترف لهم بأن القاتل هو تاجر اللحوم.
فيما بعد، يُورد الكاتب مُضاعفاتٍ كارثية، تلي خطايا التاجر والأبناء والكاهن، أهمها ما يترتّب على الأخير من محاكماتٍ وعقوبات، عرف التاريخ ما يُماثلها قسوةً. وعلى أن قضيته شهدت تلقي طلبات استرحام من مدينة “تولوز” والمناطق المجاورة لها، لكن الحكم لم يكن قابلاً للتخفيف، حتى أن توسط عدة شخصيات مرموقة، لن يمنحه سوى رحمة الموت قبل إحراق جسده، بينما يحظى الأبناء بنهايةٍ أفضل، رغم قرارات شنقهم أمام الملأ، إلا أن رغبة الحكومة باستيعاب غضب السكان الذين آلمهم مصير الكاهن المحبوب، ستنتهي إلى الإفراج عنهم شرط ألا يعودوا إلى بلدتهم أو أي مكانٍ قريب، ومع هذا الشرط، سيعيش أبناء “سيادو” تعساء بعد كشف قاتل أبيهم على حساب حياة الكاهن.
“مرجل الزيت”؛ حكايةً تُعلي من شأن القيم، رغم محدودية الخيارات أمام شخصياتها، كما يتهيأ للقارئ للوهلة الأولى، بمعنى إن استسلام كلٍّ منهم، لرغبة أو غاية، تُشعره بأن المسلك أمامه واحد لا ثاني له، ولهذا يصح أن نسميها حكايةً مختلفةً عن مجمل ما قدمه كولينز، فهي تُغالي في واقعيتها، ولا تتسامح مع ضعف البشر، وشهوة الانصياع في ذواتهم عندما يتعلق الأمر بالمُبتغى، بعيداً كليّاً عن أسلوبه ومقولاته في روايته الأولى “أنطونينا” عام 1850، ومن ثم “ذات الرداء الأبيض” 1860 التي رسخّت شهرته، وقدّمته كمبدعٍ لرواية الغموض، وما تلاها مع “المنارة”، “بلا اسم”، “رجل وزوجته”، “الحب الأعمى”، والرواية البوليسية الشهيرة “حجر القمر”.
نُشير إلى إن “مرجل الزيت” تأتي ضمن مختارات قصصية من روائع الأدب الإنكليزي للمُؤلفين شيريدان لوفانو وويلكي كولينز، ترجمة فريد اسمندر، عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023.