شخصياتٌ تعيش معها وتفرد لحلمك مساراً بينها.. «ناديا خوست» تنثر عطر دمشق في أيام الحرب والسلام

تشرين- ابتسام المغربي:
رواية (في الحرب والسلام) للدكتورة ناديا خوست، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب هذا العام؛ تخرجك من خوفك وضجرك وفقدان الأمل.. وتمدُّ مسارات يخضرُّ فيها التمسك بكل ما تعنيه الهوية.. أولها العمران والجغرافيا والمجتمع المبني على أعراف وتقاليد وأسس تربوية قاسية رغم بساطتها.. تقدم لك الصداقة وعمق تأثيرها في الحياة، وبهجة استمرارها، رغم اختلاف الرؤى والتوجهات السياسية.
تعيش بوصف تلك الحياة الهانئة وأهلها المتمسكين بما يحيطهم من جنان مكانية وأخلاقية وتربوية.. وتنقلك بسلاسةٍ من ملمس الحرير والمخمل والحياة المزنَّرة بعبق الورود والحنان الى قسوة التغيير في المجتمع، وأثر الحروب التي كان هدفها تدمير كلَّ هذا الجمال، وإضعاف المجتمع لتصل إلى نهب الثروات وخيرات الأوطان.
تصف الرواية الخيانة وتنحية الأصوات التي نادت بمحاربة مخطط الاستعمار الذي بدا واضحاً بخريطة نشرتها الصهيونية.
أصالة تتكرس
ود.خوست التي درست في روسيا، وتمسكت ببيئتها الدمشقية وتربيتها وجمال العيش في بيتٍ دمشقي مؤثرة فيها حتى النخاع.. والتي تتجسد في شخصية (أمية) القاسية بتمسكها ونفورها من الحديث المناقض لكل ما تحبه في جنة كانت تعيش في حاراتها وغوطتها، وتتنسم عليل هوائها، وتنعم بخرير مياه أنهارها، ودفء أمها وأبيها وتفكيرهم العقلاني والعادل رغم دفق الحنان في روحيهما.. أمية المشغوفة بدمشق الخمسينيات تصف كحلم كيف كان بيتها مع زوجها الذي تحبه، ولكن بقيت محافظة على مسافة تخصها في تفكيرها وعملها ومعتقداتها.. كانت طبيبة ناجحة وملتزمة لا تتنازل في إبداء رأيها الحازم مهما كانت النتائج… وما أحلاها حين تصف الحياة بعد هاتف مع ابنتها التي تعمل في دبي برفقة أبيها الطبيب.. تقول : إذا دمر العصر المُثُل الأخلاقية، فماذا يبقى من التماسك الاجتماعي ؟!. كم ألف سنة عبر الإنسان كي تتداخل العواطف في حاجاته ويرتقي بالتهذيب والثقافة.؟
قاد المفكرون الإنسانية في الثورة على الظلم الاجتماعي وسلطة المال أما النخب اليوم فتكسر القيم التي يستقوي بها الإنسان.. كم عدد الكتب التي تملأ واجهات المكتبات و عنوانها الجسد ؟!.. سُلِب الانسان صفاء الحقيقة وصدق الخبر، لذلك تتمسك بالعودة إلى الكلاسيكيات الكبرى مع أنها طبيبة وتحتاج إلى المثل.
تتذكر أباها، وهي صغيرة حين كان يحدثها عن حضارة ما بين النهرين، والحضارات السورية في مباريات الشعراء.. وعن الثقافة الشفوية التي أطرت حياة الناس في تلك المراحل…
حرب المبادئ
وهناك (مريم) الشخصية الثانية في الرواية، القريبة روحياً من أمية، وتتجادلان دائماً.. وابنها الوحيد سرقت أفكاره عصابات الجهل والسواد.. تبرأت منه، ولم تتابع أخباره ولم تعلم بمقتله… تقول: أنا مؤمنة بمبادئ يجب أن تخفق دائماً.. واضحة صادقة… والحرب كانت في الأمس ودائماً على المبادئ فهي وقود الوجدان.. والصراع بين الأمس واليوم على المبادئ من الوحدة العربية، والحرب مشاريع..
في الخمسينيات غير الآن، تغير مشروع الوحدة العربية، وبات الهدف تفكيك سورية والعراق ولبنان وليبيا، وتدمير بنية الدولة خدمة للغرب، ومشروعه و(إسرائيل).

حلم بعطر الحقيقة
تتشابك شخصيات الرواية من نفيسة السيدة الدمشقية الغنية المستقلة التي تعيش بمفردها في قصر بسوق ساروجا، وتأسرك بعنفوانها واستقلاليتها وتمردها على البلدية التي استملكت قصرها وحيها.. و(سلمى) الطبيبة الهادئة والملتزمة، وابنة صاحب معامل النسيج.. وعشق ابن خالتها لها عمراً، وصداقته التي تجمعهما بعد وحدة عاشتها بعد استشهاد زوجها، وتفرغها لعلاج الفقراء في عيادتها.. و(سليم)، المقاتل في الأغوار، والذي أخرج (مريم) حين انضمت للقتال معهم لتحرير فلسطين، والخيانات التي تمت، واختلاف السياسات ، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وفساد السلطة الذي أوصله للفصام والانتحار.
يبقى العطر
تقول د. ناديا خوست في آخر الرواية: لن يبقى من هذه الأيام إلا عطرها، ولن يمر أحد في الأيام القاسية التي عشناها، بل سيتناول عبق الأمسيات الذي أعاده الضحايا والشهداء، أما الوسخ الذي غمر مساحات واسعة من بلدنا والحجاب الأسود السابغ على الوجه والجسم، وما رسمه السياسيون والمثقفون في الفضائيات فستبتلعه الأرض التي يجب أن تنظف من أجساد قتلى الإرهابيين كما من المتفجرات… نستعيد أرضنا متراً متراً وحلم الوحدة ، وإن كان بعيداً، وبات يجمع عرباً وإيرانيين وروساً ضد أمريكيين وإسرائيليين.
العروبة ليست دماً بل هي موقف وانتماء.. الصراع العربي- الإسرائيلي يستهلك حياتنا، فـ(سايكس بيكو) لم ترسم حدوداً على الورق، بل رسمت ضيق المسار الذي نُسجن فيه سورية… إنها كطير قصوا جناحيه، وبقي حياً لأنه ذو كرامة وعنفوان.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار