ملف «تشرين».. المنفعة الشخصيّة وسوء الاختيار يقيّدان عمل المجالس المحليّة.. الاستثمارات شبه غائبة والمبادرات خجولة.. وخبراء يعولون على القانون في ردم الهوّة بين القول والفعل؟

تشرين- بارعة جمعة:
تحفيز وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال توسيع المشاركة في صنع واتخاذ القرار الإداري والخدمي والاقتصادي، مهامٌ ليست بالجديدة في منظور عمل مجالس الإدارة المحلية المُنتخبة من الشعب أولاً ولخدمته وتطوير سبل الارتقاء به، عبر مبادرات ومشروعات استثمارية لم تُبصر النور في معظمها، بل اكتفت بتدوينها ضمن أوراق عملٍ سنويّة مُسجّلة في مذكرات عملها فقط، إلّا أن ما يلفت الانتباه اليوم هو عجز وتقصير هذه المجالس في تطوير عمل وحداتها الإدارية، المسؤول الأول عن تنفيذ الخطط، فهل ما يصدر من أعضاء ورؤساء المجالس لا يزال قاصراً عن التنفيذ؟ أم إن المبادرات الاستثمارية لا تزال رهن المنفعة الشخصية على حساب المصلحة العامة للدولة والمجتمع؟!!
مسار زمني
تاريخياً في سورية، اعتُمِدَت المجالس البلدية والبلديات لتنفيذ الخدمات في المجتمعات المحليّة، ابتداءً من تحديد المخططات التنظيمية وانتهاءً بشقِّ الشوارع وتعبيدها وصيانتها ومنح رخص البناء والإشراف على سلامة الأبنية وغيرها،

د. عاصي: غياب الجانب التنموي من عمل المجالس المحلية رغم وروده بالقانون رقم 107 لعام 2011 يستوجب إقرار تمويل المشروعات الاستثمارية من الموازنة المستقلة لمصلحة المحافظة

توصيفٌ قدمته وزيرة الاقتصاد سابقاً الدكتورة لمياء عاصي يُظهر حجم المسؤولية المجتمعية المُلقاة على عاتق هذه المجالس بعيداً عن الدور التنموي، بمعنى القيام أو المُشاركة بمشروعات تنمويّة واستثماريّة بمختلف مستوياتها، وهو ما كان غائباً بشكلٍ كامل وفق رؤية عاصي، بالرغم من وروده في قانون الإدارة المحليّة رقم 107 لعام 2011، حيث نصّت المادة 34 من القانون على أحقيّة مجلس المحافظة بإقرار تمويل مشروعات استثمارية تنموية ذات مردود بما لا يتجاوز 25% من الموازنة المُستقلة لمصلحة المحافظة، وتعدّ هذه المادة معدلة لأوجه إنفاق الموازنة المستقلة الواردة بالقانون رقم 35 لعام 2007، كما نصت المادة 33 من القانون نفسه على عقد اتفاقات شراكة مع منظمات أهلية أو التعاقد مع بيوت خبرة محليّة ودوليّة لوضع رؤية تنموية مستقبلية اقتصادية واجتماعية وخدمية للمحافظة.
مكاسب شخصيّة
فكرةٌ لاقت نجاحاً كبيراً في دول كثيرة، كما ساهمت في التخفيف عن الحكومة المركزية، وهو ما يندرج في صلب عمل المجالس المحلية، بصفتها شريكاً ومبادراً في الاستثمارات الخاصة بها، وفق رؤية الدكتور في علم الاقتصاد جامعة تشرين سنان علي ديب، ما يجعل من الاستثمارات الكبيرة ضمن مهام السلطات المركزية، وهذا لا يعني انعزال المجالس المحلية عنها.
بالمقابل، نجد أن فترة نشاط المجالس تكون ضمن الانتخابات، لندخل بعدها بغفوة، حسب توصيف علي ديب لعملها، مرجعاً الأمر لعدم تناسب طريقة اختيار الإدارات، القائمة على الفكر التقليدي لا التّقني، وهنا سنتوه حتماً بين التمثيلي والتقني، عدا قلّة المحاسبة التي ستجعل من المبادرات قليلة وغير فاعلة لسوء اختيار الأشخاص.

د. عاصي: الواقع أثبت أن القانون يسمح بكثير من الأدوار للمجالس المحلية

لذا من الضروري رسم حدود الأدوار والصلاحيات بشكل واضح

إلّا أن ما نلاحظه دائماً هو تعاظم المعاناة بكيفيّة تأمين الأموال للاستثمارات والسعي وراء مكاسب شخصية على حساب جذب الأموال العامة وطريقة اختيار المشروعات الأكثر عائدية وخدمة وفائدة للأغلبية، برأي الدكتور علي ديب، فالطبيعي هو صدور تقارير سنويّة بالحاجات الاستثمارية، وأخذ الآراء بكيفية التّصدي لها وتحديد الأولوية بينها، وهنا لابدّ من التذكير بأن الإدارات المحلية مراقبة من المجالس نفسها ومن مجلس الشعب ومتابعة من وزارة الإدارة المحلية، فلنعتبر هذه الفترة تجربة ومرآة للثغرات التي عانينا منها لترميمها ووضعها بالطريق الصحيح.

مقوّمات العمل

إلّا أنه ولكي تلعب مجالس الإدارة المحلية هذا الدور المأمول منها، لابدّ من دراسة بعض النقاط الأساسية التي قدمتها الدكتورة لمياء عاصي، مؤكدةً ضرورة العمل على تحقيقها، فتوسيع الصلاحيات يُمكّن المجالس من اتخاذ القرارات التنموية والاستثمارية،

د. علي ديب: عدم تناسب طريقة الاختيار التقليدية للإدارات يجعلنا نتوه بين الفكر التمثيلي والتقني

وبالتالي تحفيزها للعمل من أجل تطوير مناطقها من النواحي الاقتصادية والخدمية، كما أن أغلبية المجالس تشكو من محدودية الموازنات الداعمة لعملها التي يتم تحديدها من السلطات المركزية، وتعود بالأصل لضعف مصادر التمويل لها أيضاً، الأمر الذي يستلزم- برأي عاصي- إعادة النظر بمفردات هذه الموازنات، الأمر الذي سينعكس حتماً على قدرة المجالس المحلية على الانخراط بالأعمال المتعلقة بتطوير أي منطقة واستثمار مواردها الطبيعية أو البشرية، كاستصلاح الأراضي وإقامة مشروعات الري والكهرباء وتأمين البذار والأسمدة وغيرها.
وتبرز أهمية تشجيع المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر ضمن حديث الدكتورة لمياء عاصي، وإقامة حاضنات أعمال والإشراف عليها أو منح التسهيلات اللوجستية والمشورة الفنية لتلك المشروعات الصغيرة في مرحلة التأسيس، التي من المفترض أن تكون هدفاً أساسياً لتنمية المجتمع المحلي، وهنا تعود عاصي للتشديد على أهمية قيام أعمال المجالس على أساسيات الحوكمة وهي الشفافية والمُساءلة وتحمل المسؤولية والمشاركة والعدالة، عبر السماح للمواطنين بحضور جلسات المجالس البلدية عند مناقشة مسألة تخص الشأن العام، أو عند إعطاء الموافقة على مشروعات استثمارية، ما يعزز الثقة بعمل تلك المجالس أمام المواطن،

د. علي ديب: المعاناة بكيفية تأمين الأموال تأتي من السعي وراء مكاسب شخصية

على حساب جذب الأموال للمشروعات الأكثر فائدة وعائدية للمجتمع

يُضاف لذلك تمكين وبناء قدرات هذه المجالس عبر التعريف بالقوانين التي ستحكم عملها وتدريبها على بعض المهارات، وتدعيم ذلك بارتباط المجالس ببيوت خبرة قانونية واقتصادية، ما ينعكس إيجاباً على المجتمعات المحلية، ليأتي التقييم والمحاسبة حسب معايير ومؤشرات كميّة من خلال جهة محايدة، ورسم حدود الأدوار والصلاحيات بشكل واضح لا مجال فيه للتداخل أو التشابك أو التكرار، لأن الواقع الحالي أثبت أن القانون يسمح بكثير من الأدوار والمهام، لكن الحدود المتشابكة وغير الواضحة للعلاقة بين السلطات المحلية والسلطة المركزية، تجعل عمل المجالس المحلية- برأي الدكتورة لمياء عاصي- يقتصر على المُمارسات المُعتادة.
رديف اقتصادي
الشق المادي والكفاءة في إدارة المشروع لا يختصران متطلبات العمل المرتكزة أولاً على وجود أفكار وترابط بين المجالس المحلية والبيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة، حسب رؤية الخبير في إدارة المخاطر الدكتور ماهر سنجر، التي تعد أحد محاور التنمية بتقديم الرؤى الاقتصادية والأفكار والحلول البديلة إلى جانب تقييم جدوى المشروعات اقتصادياً واجتماعياً، لذا من الجيّد في مكان ما تفعيل مسألة القروض للمجالس المحلية بغايات استثمارية، وتفعيل دور الصناديق الاستثمارية لتعزيز دور المجالس المحلية، بدعم المشروعات التنموية أو المتوسطة والصغيرة الحجم، والذي بدوره سيعوّض الضعف في الجباية المحلية والضعف في القدرات الاقتصادية لقاطني المنطقة برأي الدكتور ماهر سنجر، وذلك بالاعتماد على التكامل بين الخبرة والموارد المتاحة لدى المجالس المحلية.
تقصير أم ضعف إمكانات؟
الحديث عن أي ثغرة أو تراجع في أداء عمل جهة ما، يستوجب منا تقديم بيانات وأرقام تُثبت هذه الحالات، فالتعميم بمثل هذه الأماكن لا يجوز، بهذه الكلمات ردّ رئيس مجلس محافظة ريف دمشق الدكتور إبراهيم جمعة على تساؤلات “تشرين” حول تراجع أداء عمل المجالس المحلية، وأكد أن المجلس المحلي هو المسؤول الأول عن تنمية المجتمع عبر القيام باستثمارات تعتمد على موازنات الوحدات الإدارية والإعانات المقدمة لها، ومن خلال المشاركة مع المجتمع المحلي بمشروعات ترتقي بالجانبين التنموي والخدمي.

الخبير سنجر: تفعيل موضوع القروض للمجالس المحلية بغايات استثمارية وتفعيل دور الصناديق الاستثمارية لإحداث التكامل بين الخبرة والموارد المتاحة

نعم، تتفاوت الوحدات الإدارية والمكاتب التنفيذية بمبادراتها حسب تأكيدات الدكتور جمعة، وهو أمر مرتبط بتفاعل المجتمع معها أولاً، وبناء الثقة معه ثانياً، لما لذلك من انعكاسات إيجابية على أداء المجالس، التي لابدّ أن تتمتع بالأمانة والكفاءة في تأدية أعمالها، بالاستناد إلى دراسة الجدوى الاقتصادية بالأرقام، التي تعكس صدق العمل وضمان القيام به، مشيراً إلى أهمية الرقابة على عمل هذه المجالس التي تأتي من عدة جهات، أولها الشعبية والرسمية وثانيها سلطة الإعلام بصفته المحرك الأول للمجتمع، عبر توعيته بحقوقه وواجباته وتعريفه بها ضمن قانون الإدارة المحلية.
جلسات المجالس المحلية علنيّة ويمكن دعوة الإعلام وأي مواطن للحضور، وهو حق يضمنه القانون، وفق تأكيدات جمعة، كما نص القانون أيضاً على ضرورة قيام المجلس بإجراء لقاءات دورية حوارية مع المواطنين، لشرح الظروف والإمكانات والقرارات والمعوقات والصعوبات للوصول إلى التشاركية، بالمقابل ضَمِن القانون نفسه حق المجتمع بالتقييم والمحاسبة، فالمسؤولية جماعية، وجوهر القانون هو اللامركزية التي طالب الدكتور إبراهيم جمعة بتفعيلها وتطبيقها.

د. جمعة: تفعيل دور المجالس المحلية هو مطلب للمجالس نفسها قبل الإعلام

القائم دوره بشكل رئيس على التوعية

 

يتطلب الوصول إلى الشكل الأمثل بالعمل مدة زمنية معينة، فالكوادر قليلة وضغط العمل كبير قياساً بها، وبرأيه هنا لابدّ من التذكير بضرورة تأهيل هذه الكوادر التي تعاني صعوبات موضوعية متمثلة بنقص الكوادر وقلة الكفاءة في بعض الحالات، ما استدعى المطالبة بإقامة مراكز تدريب وتأهيل من رؤساء المجالس أنفسهم.
كما أكد أنه من الضروري استقطاب الكفاءات للمجالس المحلية بتحديد النسبة الأكبر منها للمؤهلين والقادرين على العمل، إلى جانب العمال والفلاحين، وأن أداء المجالس متفاوت في مستوى الخدمات والتنمية، ليأتي دور المجتمع مجدداً بالمتابعة، لكونه المستفيد والمتضرر بآنٍ معاً.
ولكي نكون موضوعيين، كسلطة وإعلام ومجتمع محلي، يجب الأخذ بيد هذه المجالس لتفعيل دورها وتأدية مهامها وتطويرها وتعميم التجارب الرائدة لها، لإحداث التوازن والتفهم للدور والإمكانات، وهنا يعود الدكتور إبراهيم جمعة ليؤكد أن ما يتم طرحه في الإعلام حول تفعيل دور المجالس المحلية هو مطلب للمجالس المحلية أيضاً، داعياً إلى أن تأخذ المجالس المحلية دورها الذي تسعى إليه رغم المعوقات الكثيرة،

المحامي حبابة: التقصير هو نتيجة الفجوة الكبيرة بين الأعضاء لتفاوت الكفاءات العلمية والمهنية فيما بينهم

والحاجة للاستعانة بكل الفعاليات العامة والخاصة وبيوت الخبرة للمساهمة في وضع الخطط المستقبلية المطلوبة منها، والتعاون مع المنظمات الشعبية، والأخذ بمقترح إحداث صندوق الإقراض الذي تم تقديمه في اللقاء الأخير بمجمع صحارى، وتفعيل نظام الحوافز والمكافآت التشجيعية للعاملين وسط تدني الرواتب الأجور، وإجراء مسابقات لتعيين مديرين للمدن والبلدان و البلديات.
فجوة قانونية وتنظيميّة
تهمٌ التقصير والتراجع بالأداء لم تأتِ من فراغ، بل هي انعكاس للواقع المُعيش الذي لم يشهد حتى اليوم خطوات حقيقيّة في مضمار العمل التنفيذي لمجالس الإدارة المحلية، التي مردّها برأي المحامي أحمد حبابة إلى اتساع الهُوّة بين أعضاء المجالس، نتيجة تفاوت الكفاءات العلمية والمهنية، وهو ما يقوّض قدرتهم على التخطيط والتنفيذ ووضع الخطط التنموية الخاصة بالمجتمع المحلي بكفاءة وفاعلية، متسائلاً: ما الذي يمنع إخضاع هؤلاء الأعضاء لدورات تثقيفية بالقوانين والأنظمة واللوائح والقرارات، إضافة لتعريفهم بواجباتهم وحقوقهم، التي تعد مسؤولية وزارة التنمية الإدارية بالدرجة الأولى؟!

حبابة: التشديد على تحديث بعض مواد القانون الخاصة بوسائل التمويل

من المادة 134 إلى 142 لتتناسب مع الأوضاع الحالية

أما عن القانون رقم 107 لعام 2011 فهو قانون متطور وحضاري، برأي حبابة، لكن لم يأخذ حقه بالتطبيق بسبب الحرب على سورية، ما جعل هناك ضرورة لتحديث بعض مواده ولاسيّما الخاصة بوسائل التمويل من المواد 134 إلى 142 لزيادة وسائل التمويل، ولكي تناسب الأوضاع الحالية، فالتضخم وانعدام الاستقرار الاقتصادي والغلاء ساهمت في نقص التمويل، وبالتالي تحجيم المشروعات الاستثمارية، هنا تأتي أهمية توسيع المشاركة بين القمة والقاعدة في تنمية المجتمع المحلي، عبر تحديد احتياجاته وموارده وتثقيف المواطن بحقوقه وواجباته ودوره في عملية الرقابة على أداء المجالس، وتصويب أي خلل فيها، إضافة إلى عدم اعتماد الحلول التكتيكية المقترحة ليس من المسؤول فقط وإنما المواطن أيضاً، عبر اجتماعات دورية من المجلس الأعلى للإدارة المحلية أكثر من مرتين في السنة حسب المادة 5 الفقرة 1 من القانون 107 لعام 2011، بغية المتابعة المستمرة للخطة الوطنية اللامركزية ومعرفة نتائج تنفيذها والمعوقات والعمل على حلّها بأسرع وقت ممكن.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. الفساد والروتين وعدم فهم قوانين الإدارة المحلية.. ثلاثيّة خلل حوّلت المجالس المحلية إلى “ثري يشكو الفقر”..الهروب إلى الذرائع خيار جاهل ومظلة فاسد

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار