الأجراس تقرع بالحسكة.. القطاع العام الصحي يتحدّى الإرهاب والاحتلال وينهض من جديد
تشرين – خليل اقطيني:
قَرَعَ توقيعُ العقد بين مديرية الصحة والمكتب الفرعي لنقابة المعلمين قبل أيام، الجرس للإقلاع العملي بتحويل المركز الطبي في مدينة الحسكة (اللؤلؤة) إلى مشفى يُقدّم الخدمات الطبية لسكان المدينة وضواحيها والريف الجنوبي الذين يزيد عددهم على مليون نسمة، ويقطنون في الحسكة وصولاً إلى الريف الشمالي لمحافظة دير الزور.
هؤلاء السكان الذين حرمهم الاحتلال والإرهاب من أي مؤسسات صحية، إذ قام الاحتلال الأميركي بتدمير أربعة مراكزً صحية في الأرياف، من أصل 100 مركز، إما تدميراً كاملاً أو جزئياً وبلا أي مبرر ، حسب مدير الصحة الدكتور عيسى خلف، كما تم الاستيلاء على مقر مشفى الشدادي (جنوب الحسكة) الذي كانت وزارة الصحة على وشك تجهيزه ووضعه في خدمة سكان المنطقة الجنوبية، وكذلك خرج المشفى الوطني في الحسكة عن الخدمة.
أما الاحتلال التركي ومرتزقته فاستولوا على مشفى رأس العين، الذي تم استكمال بنائه وتجهيزه بتوجيه من السيد الرئيس بشار الأسد أثناء زيارته الأولى إلى محافظة الحسكة في آب من عام 2002، ليصبح من أحدث المؤسسات الصحية في العالم، إلى جانب مشفى القامشلي ومشفى المالكية، الذي خرج هو الآخر عن الخدمة، ليبقى مشفى القامشلي المؤسسة الصحية الوحيدة التي تُخدّم جميع سكان محافظة الحسكة وأجزاء من محافظات دير الزور والرقة وحلب، الذين يزيد عددهم على 3 ملايين إنسان.
من مركز طبي إلى مشفى حديث
وبَيّن خلف أنّ الاحتلال والإرهاب أخرجا المؤسسات الصحية في المحافظة عن الخدمة، الأمر الذي جعل الخدمات الطبية تُقدّم للسكان في أدنى مستوياتها، كأن الاحتلال والإرهاب كانا (ونقول كانا لأنهما وجهان لعملة واحدة) يدفعان أبناء هذه المحافظة إلى الموت المحتّم، إن لم يكن بالجوع أو العطش فبالمرض.
“اللؤلؤة” من مركز طبي إلى مشفى حديث
ولهذا كان لابد من التحرك الجدّي لرفع مستوى الخدمات الصحية في المحافظة، وكانت الخطوة الأولى بتحويل مبنى “اللؤلؤة” في مدينة الحسكة والعائد لنقابة المعلمين إلى مركزٍ طبي، منتصف أيلول 2017.
ويؤكد خلف أن هذا المركز الطبي، ونظراً لحاجة السكان الماسة للخدمات الصحية من جهة، وارتفاع أسعار هذه الخدمات لدى القطاع الخاص من جهة ثانية، ولاسيما أن معظم سكان المنطقة فقراء، أبلى بلاءً حسناً، وكان يؤدي خدمات توازي ما تقدمه المشافي، فخلال العام الماضي – مثلاً – استقبل نحو 175 ألف مريض.
ورغم ذلك كان طموح الجهات المسؤولة في المحافظة أكبر من ذلك بكثير، تلبية لاحتياجات السكان المحقة، رغم وجود الاحتلال والإرهاب، وكانت أولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه في أواخر العام الماضي 2022، عندما التقى محافظ الحسكة الدكتور لؤي محمد صيّوح، نقيب المعلمين في المحافظة عبد الرزاق الحجي، ومدير الصحة، وعضو المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة الدكتورة ديمة عبد المسيح مسؤولة قطاع الصحة، لبحث إمكانية تحويل المركز الطبي في مبنى اللؤلؤة إلى مشفى.
وتم في هذا اللقاء الاتفاق على قيام نقابة المعلمين بتسليم كامل مبنى اللؤلؤة لمديرية الصحة، باستثناء الجزء الذي يشغله المركز الصحي التابع للنقابة والكائن في الجزء الشرقي للبناء، وأن تقوم مديرية الصحة باستخدام الطوابق الشاغرة لمصلحة المركز الطبي، بعد تحويله إلى مشفى.
أول مركز لصناعة وتركيب الأطراف الصناعية بتقنيات عالمية في القامشلي
ولم يكد يمضي شهرٌ واحد على هذا اللقاء، حتى طالب صيّوح المنظمات الدولية في المحافظة بدعم “مشفى اللؤلؤة” المحدث في مدينة الحسكة، وذلك من خلال إعادة تأهيله وتزويده بالأجهزة والمعدّات اللازمة وفق المواصفات المحددة من وزارة الصحة.
وأكد صيّوح أن هذا الأمر يعدّ من أهم الأولويات التي تحتاجها محافظة الحسكة في هذه المرحلة، مع أهمية الاحتياجات في المجالات الأخرى، وذلك لأن هذا المشفى سيقدّم الرعاية الطبية لكل أبناء المحافظة والمحافظات المجاورة في حال تقديم الدعم اللازم له، من خلال قيام مديرية الصحة بتحويل الطابقين اللذين استلمتهما من نقابة المعلمين إلى قسم جراحة يضم غرف عمليات وعناية مشددة ومحطة توليد أوكسجين ومصعداً خاصاً بالمرضى، لتضاف هذه الخدمات التي تقدّم مجاناً للمواطنين إلى الخدمات المقدمة سابقاً في المركز الطبي، من خلال الأقسام التي يضمها وهي الإسعاف والداخلية والأطفال والحواضن والأشعة والتحليل المخبري، إضافة لعيادات اللايشمانيا والتلاسيميا واللقاح.
والآن بعد توقيع العقد بين مديرية الصحة والمكتب الفرعي لنقابة المعلمين، لن يمضي وقتٌ طويل حتى نرى المركز الطبي في الحسكة وقد صار مشفى مجهزاً بأحدث المعدات والأجهزة الطبية.
فاقدو الأطراف يحدوهم الأمل
هذا التطور في المجال الصحي لم يقتصر على مدينة الحسكة فحسب، وإنما كان لمدينة القامشلي منه نصيب، حيث انتهى متطوعو إدارة المياه وإعادة التأهيل في فرع الهلال الأحمر العربي السوري في الحسكة من تجهيز مركز لتصنيع وتركيب الأطراف الصناعية، وإعادة التأهيل البدني في الهيئة العامة لمشفى القامشلي.
وذكر رئيس مجلس إدارة الفرع علي منصور أن أعمال التجهيز، التي تم تنفيذها بدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تضمّنت إعادة تأهيل قسم للمعالجة الفيزيائية، وإنشاء مركز لتصنيع الأطراف الصناعية يضم المعدات والآلات المطلوبة، إضافة إلى مستودعات لتخزين المواد المساعدة للحركة، مبيّناً أنّ إحداث مركز لتصنيع وتركيب الأطراف الصناعية في محافظة الحسكة يعدّ نقلة نوعية في الواقع الصحي في المنطقة الشمالية الشرقية برمتها، لكونها تفتقر إلى وجود هذا المركز.
إعادة تأهيل بعض الأقسام وأجهزة حديثة لتحويل المشفى إلى مؤسسة صحية متطورة
وأوضح منصور أن محافظة الحسكة بشكل خاص والمنطقة الشمالية الشرقية بشكل عام تضم عدداً كبيراً من فاقدي الأطراف، منهم جريح وطن ومصابون بسبب الأعمال الحربية أو شظايا أو قذائف أو آلة ميكانيكية حادة أو لأسباب خلقية، لافتاً إلى أن من تسمح له ظروفه بتركيب طرف صناعي من سكان المنطقة، يتكبّد عناء السفر إلى العاصمة دمشق والكثير من المال والجهد، ومن شأن مركز تصنيع وتركيب الأطراف الصناعية الذي تم تجهيزه في الهيئة العامة لمشفى القامشلي أن يرفع هذه الأعباء عن كاهل هؤلاء المصابين.
من جانبه أكد المدير العام للهيئة العامة لمشفى القامشلي الدكتور عمر العاكوب أن المشفى بدأ باتخاذ الإجراءات اللازمة لإحداث هذا المركز منذ بداية العام الحالي، بتوجيه من محافظ الحسكة الدكتور لؤي محمد صَيّوح، بعد الحصول على موافقة وزارة الصحة، مبيناً أن المركز دخل مرحلة الإنتاج الفعلي للأطراف الصناعية بنجاح تام، ووفق المواصفات المحددة.
ووجه العاكوب الشكر لفرع الهلال الأحمر العربي السوري في الحسكة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر على تقديم الدعم اللازم للمركز بكل المعدات اللوجستية والمستلزمات الضرورية للعمل، مشيراً إلى أن المشفى يدعم المركز بالكوادر الفنية والطبية اللازمة بعد تدريبها، بالتعاون مع وزارة الصحة وفرع الهلال الأحمر العربي السوري واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولاسيما أن الهيئة العامة لمشفى القامشلي تضمّ العديد من الكوادر الطبية والفنية والتمريضية من ذوي الكفاءة العالية، إضافة إلى تجهيزات ومعدات طبية حديثة يمكن الاستفادة منها في المركز.
نحو مشفى متطور
ونبقى في مشفى القامشلي، حيث مازالت أعمال ترميم وصيانة عدد من الأقسام وتجهيز مواقع لتركيب عدد من الأجهزة الطبية الحديثة مستمرة، بهدف إعادة تأهيل هذا المشفى ليصبح من المؤسسات الصحية المتطورة.
وذكر العاكوب أن أعمال الترميم وإعادة التأهيل، التي تجري بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية من المنحة اليابانية بإشراف وزارة الصحة، ستستمر حتى مطلع العام القادم، وتشمل جانبين: الجانب الأول إعادة تأهيل أقسام موجودة سابقاً في المشفى، كأقسام الكلية الصناعية والإسعاف والعناية المشددة، أما الجانب الثاني فهو تجهيز مواقع لتكون إما أقساماً جديدةً كقسم لمعالجة الحروق، أو أمكنة لأجهزة طبية جديدة وحديثة ، كمكان لجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، ومكان آخر لجهاز جديد للتصوير الطبقي المحوري، مبيّناً أن جميع أعمال الترميم وإعادة التأهيل التي تجري حالياً في المشفى على قدر كبير من الأهمية، وذلك لكونها ستشكل قيمة مضافة لها، وترفع مستوى الخدمات الصحية التي تقدّم للسكان المستهدفين منها.
صيّوح: النهوض بالواقع الصحي وتطويره سيستمر رغم أنف الاحتلال والإرهاب
وأوضح العاكوب أن اللافت في هذه الأعمال أن المشفى على موعد مع جهاز جديد وحديث لم يكن موجوداً سابقاً، ليس في مشفى القامشلي فحسب، وإنما في جميع المؤسسات الصحية في محافظة الحسكة، وهو جهاز الرنين المغناطيسي، الذي يُعدّ التصوير به من الفحوص الباهظة الثمن وغير المتوافرة في كثير من المستشفيات، ما يعني أن وجود هذا الجهاز في المشفى يعد إنجازاً طبياً مهماً ومكسباً يتم تحقيقه لمحافظة الحسكة وكل المناطق التي تستفيد من خدمات الهيئة العامة لمشفى القامشلي من المحافظات المجاورة، وذلك استجابة لمطالب شعبية ورسمية مستمرة منذ عقود، حالت دون تلبيتها المؤامرة الإرهابية على سورية، لافتاً إلى أن الأمر الآخر الجدير بالأهمية بأعمال الترميم وإعادة التأهيل الجارية، هو تجهيز مكان لجهاز جديد وحديث للتصوير الطبقي المحوري.
وشدد العاكوب على أن إحداث قسم لمعالجة الحروق ضمن الهيئة العامة لمشفى القامشلي يعد إنجازاً مهماً، لكون الحروق الجلدية من الإصابات الشائعة في محافظة الحسكة، وغالباً ما تتم معالجتها بطرق بدائية خاطئة، نتيجة لعدم وجود مركز متخصص في المحافظة من جهة، ولعدم قدرة المصاب وذويه على تحمّل تكاليف السفر إلى العاصمة أو المحافظات الأخرى ونفقات العلاج في المراكز المتخصصة من جهة ثانية.
الجهود لن تتوقف
وما يطمئن ويثلج الصدر، أن محافظ الحسكة د. صيّوح أكد لنا أن الجهود التي تُبذَل “للنهوض بالواقع الصحي في الحسكة وتطويره” بما يلبّي طموحات سكان المحافظة، ستستمر حتى تصل إلى أهدافها بالتعاون مع وزارة الصحة، وخلال زمن قياسي، رغم أنف الاحتلال والإرهاب.