غيرُ مكتملةٍ

حين يغدو الأديب كثيرَ وناضجَ الثمرِ والعمر، تُجمع أعماله قاطبةً فيما يُسمّى «الأعمال الكاملة» وهي مرْتَبةٌ من التكريم المعنوي يبلغها الكاتب في مرحلة ما، ولعله يشعر حينها أن كرومَه قد سُوّرت، وأُقيمت الحدود على «جفناتها» ليطيب للقارئ أو الباحث أو الناقد أن يقيم ويتجوّل فيها على هواه! وفي «الأعمال الكاملة» إغواءٌ ما بعده إغواء لمن يأتي إلى هذا الكاتب، لأنها جامعةٌ مانعة تغني عن البحث أو تسقُّطِ قصةٍ مفقودة هنا أو هناك!
لا يحظى الكاتب بفضيلة أو نعمة نشر أعماله الكاملة، أوَّلِها مع آخرِها، إلا إذا كان راسخاً في مجاله، وتريد أمّتُه أن تفخر به، ولطالما خرجت معها أو بعدها أعمالٌ لم تُنشر إما لعدم ثقة الكاتب بها، أو لرفض الناشرين تبنّيها يوم كان الكاتب يحبو في عالم الكتابة، وهذه الأعمال هي التي تثير الانتباه والاهتمام لأنها تُقرأ بعين أخرى استعارت تبجيلَ كاتبها، ولطالما مُرّرت ضمن هذه الأعمال قصصٌ أو روايات لم تكتمل في أصلها، لسبب لا يعلمه حتى الكاتب، وفي حين يأخذها الناقد بأدواته التامة كأنها اكتملت، وهو في الواقع يقرأ الكاتب، وليس العمل الذي لم يكتمل، بينما يتأكّل الفضولُ القارئَ الذي يحاول إكمال «العمل» بالخيال أو بالخبرة بأسلوب الكاتب كما هو حاله مع رواية «غسان كنفاني» : «من قتل ليلى الحايك؟» أو «الأم» «لتولستوي» صاحب «الحرب والسلام» وكلاهما من عمالقة الأدب الإنساني، وكلاهما لم يتمّ عملاً أدبياً ضمن نهرٍ متدفق من الأعمال التي أُعيدت طباعتُها مئات المرات!
-حقاً، ما الحالة التي تصيب الكاتب وتقطع دروبه إلى النهايات؟ ولماذا لا ينحّي العمل الذي لم يستطع إكماله جانباً أو يقوم بتمزيقه؟ بعض الروائيين يقولون إنهم استغرقوا في كتابة رواية عشر سنوات أو عشرين عاماً، لكنهم خلال هذه السنوات لم يتوقفوا عن كتابة شيء آخر، وهذا يعني أن الذّهن لم يتوقف عن التشبُّث بالعمل الأساس، وهو قيد «التخمير» ولا حساب للزمن هنا وقَسْره على «الإنجاز» بينما تلبث تلك الروايات غير المكتملة مكتوبةً وهي قيد «الانتظار» ربما لأنها تحتفظ ببهاء كبير أو بحلم الكاتب بلوغَ هدفٍ أضاع إليه الطريق لذلك ضنّ بالعمل أن يمزقه ويرميه كأنه ما كان! لكن ما الجواب على سؤال: – لماذا يستعصي على الكاتب بعضُ الشخوص؟ لماذا يتوقف صاحبُ «عائد إلى حيفا» أمام «ليلى الحايك» ويعجز عن تتبُّع قاتلها؟ ولماذا يكفُّ صاحب ملحمة «الحرب والسلام» عن تتبُّع «الأم» بعد أن تخلت عن كل ثرواتها لتعيش عزلتها المرغوبة فلا نراها ماذا فعلت في سكنها الجديد قرب الدّيْر؟ إنها أسئلة بلا أجوبة، لأن عالم الإبداع بلا شطآن وكان ذكر «كنفاني» و«تولستوي» محضَ مصادفة فكثير من كتاب العالم مروا بهذه التجربة، وانتقلت إلينا في «أعمالهم الكاملة» رغم أنها «غير مكتملة»!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار