حكاية قصيدة “الحزن” لنزار قباني بصوت فهد يكن وكاظم الساهر
تشرين-سامر الشغري:
في سجل الشاعر الراحل نزار قباني 104 قصائد مغناة، شدا بها اثنان وثلاثون مطربا من مختلف أقطار العرب، واللافت في هذا السجل القياسي أن هنالك قصائد غناها أكثر من مطرب وخلال حياة الشاعر، ومن بينها (قصيدة الحزن) التي قدمها أولا المطرب المعتزل (فهد يكن)، ومن ثم قيصر الأغنية العربية (كاظم الساهر).
هذه القصيدة التي يعرفها الجمهور تحت عنوان (علمني حبك)، نشرت لأول مرة ضمن مجموعة “قصائد متوحشة” الصادرة سنة 1970، وكان لافتا أن هذه المجموعة ضمت أكثر قصائد نزار المغناة جماهيرية، والتي قد يكون نجاحها أرخى على قصيدة (الحزن)، وأبعد عنها أنظار المطربين حتى عام 1986، عندما طلب الثنائي فهد يكن والملحن الراحل رضوان رجب قصيدة من نزار ليقدماها ضمن مشروعهما في غناء نصوص لشعراء معاصرين، فاختار لهما نصه المحبب والمظلوم (قصيدة الحزن).. ورغم الجهد الذي بذله رجب في تلحين القصيدة متنوعة القوافي والتفعيلات والكئيبة الطابع، ورغم أداء يكن العالي لها، فإن الإذاعة والتلفزيون السوريين الرسميين لم يقتنيا الأغنية، فلم تذع عبرهما ولا مرة، وجمهور يكن اليساري لم يستسغ سماع مطربه المفضل يغني قصيدة عاطفية لنزار شاعر البرجوازية، بدلا من النصوص الرمزية والثورية لنزيه أبو عفش وفايز خضور والفيتوري ومحمود درويش.
عدم نجاح الأغنية جماهيريا دفع نزار كعادته لتقديمها لمطربين آخرين، وحصل ذلك بعد إحدى عشرة سنة مع كاظم الساهر الذي أعاد تقديمها للجمهور ضمن ألبوم حمل عنوان (في مدرسة الحب) ، حيث لم يكتف كاظم بتغيير عنوان القصيدة بل جعل نزار يضيف إليها أبياتا جديدة، وجندت لها الشركة المنتجة روتانا حملة تسويقية ضخمة، وجعلت بعض الكتاب يصفونها بكثير من المبالغة بعروس أغاني القرن.
وعندما سألت عددا من الكتاب والصحفيين ممن يعتد برأيهم عن رأيهم بلحني رجب والساهر لقصيدة نزار، وجدوا أن الملحن العراقي أخذ الكثير من جمل نظيره السوري اللحنية، وقام بعملية تنويع وإعادة توزيع لها ولاسيما في المقدمة وبالأبيات المتشابهة.. هذا التشابه بين اللحنين لم ينفه بالمرة الباحث الموسيقي جمال سامي عواد، الذي رأى أن أوجه الاختلاف بين مقدمتي اللحنين في التوزيع واللحن والإيقاع غير جوهرية، لأنهما تشتركان بمقام النهاوند و بضعف التعبير عن الفكرة. وقارن عواد بين المنحى التقليدي في تلحين القصيدة عند رجب من خلال تجزئة المقدمة مع استخدام إيقاعات مختلفة، وبين لحن الساهر للمقدمة عبر التوزيع الاستعراضي المتكلف الضخامة البعيد عن روح القصيدة، باستخدام آلة ” التوبا” مع توزيعات موسيقية خلفية وإيقاعية مترفة، وإدخال التنويع والجمع بين الآلات الغربية و الشرقية بالطريقة نفسها التي قام بها رجب، ما يبدو أنه تطابق في اللحن.
أوجه الاختلاف الأخرى بين اللحنين، كما يراها عواد، تمثلت أيصا بلجوء رجب إلى مقام الصبا مع كل كلمة أو عبارة فيها حزن أو بكاء، ما جعل لحنه متوقعاً وميكانيكياً بشكل تقليدي، بينما استخدم الساهر التنويع الأدائي وظل يدور في المقام نفسه، في لحن يبدو أقرب تعبيرياً عن المعنى.. ويزداد التمايز بين اللحنين، برأي عواد ، عندما يبدأ الانتقاء المختلف للكلمات، فبينما يسير رجب بطريقة غاية في التقليدية وصولاً إلى ذروته المنشودة التقليدية واعتمادها على التصاعد الغنائي فقط من دون تصاعد موسيقي، يبدأ الساهر بإرساء أسلوب جديد بتلحين القصيدة، سواء في استخدام الإيقاعات والآلات والتوزيعات بالخلفية وإدخال لمسات مقامية عراقية نادرة الاستخدام، وصولا الى ذروة القصيدة عندما أدخل صوت الكورال مع صوته في النهاية بحيث بدت الخاتمة كأنها انفجار نهائي ناجح، بعد إرهاص سابق في متن القصيدة.
ويخلص عواد إلى أن فكرة استفادة لحن من الآخر ضعيفة إلى حد ما، فالتشابه برأيه أملته قوة النص وسطوته على الملحن، وهو لا يتعدي البدايات البسيطة، ثم بدأ الفارق يتسع بشكل تدريجي لمصلحة الساهر، و هذا ما يحدث عادة عند وقوع النص نفسه بيد ملحنين مختلفين.
وايا كان النجاح الكبير الذي حققته قصيدة (الحزن) مع كاظم، فإنه يجب ألا يحجب أغنية يكن عن الجمهور فينساها، وقد يدفعنا ذلك لنعيد الحياة لقصائد غنائية كثيرة من شعر نزار لاقت المصير نفسه ، وظلت محدودة الانتشار، ولم تشتهر إلا بعد أن قدمها مطربون آخرون، كما حصل مع عبد الهادي بلخياط وطلال مداح وغيرهما.