الصحافة مهنة ألم.!

تشرين-نضال بشارة:

لم يكن يخطر ببالنا أن العمل في الصحافة الثقافية سيدفع المرء إلى أن تتشابك حياته مع حياة معظم المبدعين في مدينته ويصبح بالتالي أحد خيوط تلك الحيوات، التي بدورها ستصنع نسيج حياته، فهو من دون أن يدري سيتعلم من تجاربهم الشخصية والإبداعية،  ويصبح فرداً من بعض عائلاتهم، وصديقاً لهم. كما أن حياته ستغدو مشبوكة بتلك اللقاءات والجلسات والرحلات، لمتابعة بعض الأنشطة والمهرجانات في هذه المدينة أو تلك. فعَقْدُ الصداقات تجاوز مدينتنا حمص لمدن الرقة وحلب واللاذقية ودمشق، وبعض الأقطار العربية، والكلام طبعاً عما قبل سنوات الحرب.

تشابك حيوات

ففي حمص تشابكت حياتنا مع حيوات الكثيرين من المبدعين، لعل أولهم الشاعر الراحل ممدوح السكاف الذي كان يرأس هيئة المكتب الفرعي لاتحاد الكتّاب العرب والذي كان مثالاً للتعاون معنا لتغطية أنشطة الاتحاد من ندوات سنوية كان يعقدها، ومن محاضرات متفرقة على مدار العام، بالإضافة لجلسات خاصة بالشعر وأحاديث الذكريات الشخصية، وكذلك شريكه الشاعر الراحل مصطفى خضر، لفترة لا بأس بها زمنياً في المكتب، الذي كنا نلتقي به لنمارس رياضة المشي، وليحدثنا عن آخر ما قرأ من كتب، وعن رأيه بفكر وكتابات محمد عابد الجابري. ولم يكن بعيداً عنهما الشاعر والمترجم الراحل د. شاكر مطلق، كما كان للقاص الراحل محمد محي الدين مينو نكهة خاصة في جلسات صيفية بمقهى الروضة، خلال إجازته السنوية بحكم اشتغاله مدرّساً في الإمارات، لأكثر من ربع قرن. وما زلنا نستعيد كيف كنا ننبهر بأناقة وحضور الشاعرة الراحلة دعد طويل قنواتي في مطلع شبابنا، التي تشاركنا معها في أمسية ذات مهرجان في مدينة القصير، ومن المؤسف أن أول خبر كان عنها في هذه الحرب، خبر رحيلها في المغترب الأوروبي. أمّا المفكر الراحل د. طيب تيزيني ومشاركاته الغنية في الملتقى الفكري الذي كان ينظمه مكتب الإعداد في فرع حزب البعث العربي الاشتراكي، وبما كان يطرحه أيضاً في محاضراته الغنية التي أسهمت في تفتح وعي كثيرين منا، وكذلك جلساته في المقاهي وطيب معشره الأبوي، فلا يزال حاضراً في الذاكرة والوجدان.

شوك إلى شوق

فالذاكرة الاقتحامية لا ترحمك في كل تفصيل بحياتك، سواء كنت تشرب، أو تأكل، أو تدخن، أو تتسكع في شارع معين، فإن كنت تُعِدُّ قهوتك فلا بد لك أن تتذكر الناقد والتشكيلي الراحل معتصم الدالاتي والجلسات الأسبوعية في صالونه، المفعمة بأحاديث متنوعة وبالشعر دائماً، وإن كنت تفكر بالعودة إلى التدخين أو ترغب في تركه، فلا بد أن تتذكر جملة الراحل ممدوح السكاف: “المُدَخِنْ يجب أن يكون ناجحاً لا فاشلاً” مع ضحكته المميزة. وإن وصلت إلى قرب الساعة الجديدة ستجد قدميك تقودانك تلقائياً إلى جهة اليمين إلى عيادة الدكتور الراحل شاكر مطلق الذي حرص على تدريبنا على شرب الشاي من دون سكر والاستعاضة عنه بعيدان القرفة، وهو المشروب المفضل أيضاً للصديق الراحل الشاعر مصطفى خضر مع إضافة الزنجبيل، فلن تشرب الشاي من دون أن تستذكرهما كلما مررت من قرب العيادة أو مشيت بالشوارع ذاتها، وتشتاق إليهما بكثير من الحسرة. لكن حالك تتأكد بأنك لست على ألوان الطمأنينة إن دخلت إلى حديقة اتحاد الفنانين التشكيليين ولم تجد ابتسامة وترحيب الفنان بسام جبيلي، ولذلك لن تطيل المكوث، فكأن الشوك تحتك، الشوك الذي يتحول إلى شوق فقط على يدي القاص والزميل الراحل جمال عبود إن استلمك بما يحفظه من نكتٍ عن الحمامصة، فيسردها بما يختزنه من محبة ليعبّر عن شوقه لك.

مبادرات المحبة

ولنا أن نستذكر من عالم الموسيقا، الموسيقي الراحل هشام الصوفي أحد أبرز أعضاء “نادي دوحة الميماس للموسيقا والتمثيل” وأبرز الموسيقيين بحمص، الذي كان حاضراً بقوة بألحانه في معظم دورات مهرجان الثقافة الموسيقية بحمص وبمهرجان الأغنية السورية بحلب حاصداً في كل دورة جائزة لأصوات قدمها كان في مطلعها الفنان موفق الشمالي، والفنانة علياء العيسى، والفنانة ميري مصطفى، وأصوات أخرى مميزة. ومن سخريات الحرب أيضاً أن أول خبر تلقيناه عنه كان خبر رحيله في مغتربه بمصر. وعالم الموسيقا والمسرح في آن معاً لا يحضران من دون  أن تستذكر الباحث والمخرج محمد بري العواني رئيس “نادي دوحة الميماس” ومحاضراته التحليلية لبعض أعمال الموسيقيين والمسرحيين ومسرحياته التي أخرجها وشارك فيها في مهرجان حمص المسرحي الذي تنظمه نقابة الفنانين، وجلسات عدة جمعتنا معه في النادي بعد فعاليات المهرجان، وجلسات أخرى غنية جمعتنا به في مكتب اتحاد الكتّاب العرب خلال سنوات الحرب هذه، مع الشاعر الراحل محمد الفهد، كعضوين في هيئة مكتب حمص، يتعاونان في إعداد نشاطه بعلاقة لا مثيل لها، فقد تحسبهما في خندقين خصمين، وتجدهما في ساعة أخرى في الخندق ذاته، فتتعلم منهما كيف يمكن أن تخالف وتحتدّ على صديقك من دون أن تخسره، لأنهما يبادران بالتواصل معاً من دون حسابات، فيحافظان على المحبة بينهما.

فخزائن الفقد كثيرة، كانت قد بدأت منذ عقدين برحيل الشاعر والزميل الصحفي ثائر سلوم الذي كان يتنبأ برحيله دائماً بالقول ” سأموت في عمر أبي” إلى أن هرب بسيارته من دهسِ طفلٍ ظهر أمامه فجأة فاصطدمت سيارته بمنصّف المتحلّق الجنوبي في دمشق فأودى الإهمال الطبي بحياته عن عمر الخامسة والثلاثين سنة، وهو العمر الذي رحل فيه والده! ثم تتالت بسبب الأمراض التي فاعلتها الحرب مرارات فقدنا للأحبة المبدعين من حمص ومحافظات أخرى سواء في الشعر أو القصة والبحث الفكري والفن التشكيلي، وفي الموسيقا والمسرح، من أجيال مختلفة، منهم القاص المهندس حسان يوسف المحمد، الممثل والمخرج أحمد منصور، الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الذي عاش ردحاً طويلاً من حياته في حمص، وهو مثال الغنى الثقافي والتواضع الإنساني، الشاعر د. إبراهيم الجرادي، الشاعرة سوسن الجابي السباعي، الشاعر بشير عاني، التشكيلي محمود الضاهر، الشاعر عصام جنيد، الباحث محمد راتب الحلاق، والتشكيلي محمد طليمات، والعلاّمة المجمعي د. عبد الإله نبهان.
ولا عبارة تَصِفُ تَساقطنا، سوى ما قاله صديقنا الشاعر عبد القادر الحصني، ابنُ حِمْصَ، في منشور له، نستعيرها لنختتم بها ما لا يختتم من ألم ” صديقاً صديقاً أموتُ”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار