الورق يتنفّس حين تُدوَّن عليه الحروف والكلمات؟ نعم! إنه يتنفّس ويحيا بسواد الحبر لأنه يمور بالمعاني والأفكار وتوحيد الأصوات الحسّيّة التي تختلف في نبراتها بين البشر الناطقين بها: رخيمة؟ غليظة؟ ناعمة؟ عالية؟ هامسة؟ حادّة؟ ناعمة؟ خشنة؟ لن يُسمع الصوت على الورق إلا عبر المعاني التي يتلقاها القارئ بمشاعره وأحاسيسه!
في عصر غابر كان في “ثقافتنا” سوقٌ للورّاقين، ولعلّه يُذكر الآن أقلَّ مما تُذكر أسواق النحاسين والصَّاغة والصباغة والنسيج والفخار والجلود والنقش والتطريز والزجاج والحفْر على الخشب والحجارة، بذريعة أن آلة الطّباعة استدارت بالزمن استدارة كبرى وخلّفت وراءها مهنة “الوراقة” التي اعتمدت على الكتَبة والمدَوّنين والنُسّاخ الذين كان الكتّاب يلقون بين أيديهم بمؤلّفاتهم ويأتمنونهم عليها، ويتركون فينا، نحن قراء كتب المطابع، مشاعرَ شتى توصف بالرومانسيّة لأنها تستحضر زمن السُّرُج والشموع وحبرِ العفْص وألوانِ النباتات الحية وأنواع الخطّ التي بلغت سبعةَ، وهي جميلةً متمايزة، ولطالما كتبَت دار الطباعة ملحوظةً تشير إلى أن الخطأ الذي ورد في النصّ ربما كان من الناسخ، ووضعَت احتمالات الصّواب! عندها كنت أغادر النص وأمضي إلى ذلك الناسخ المجهول، فأتخيله مرهقاً، أو ينسخ في موهن الليل حيث لا إضاءة كافية، أو مرّت به حالة من السّهو أو تلازمٌ لغوي اعتاده فلم ينتبه إلى ابتكار الكاتب الذي ينسخ له مخطوطه، وأروح إلى سوق الورّاقين الذي لا وجود له بين الأسواق التقليدية المعاصرة، تتباهى بها الدول الحديثة لأنها تحفظ تاريخها وعراقتها، أتجوّل بين دكاكينها وأرى وجوه المعلمين والمتدربين ولوحات الدعاية على مداخل تلك الدكاكين التي تعرّف بشهرة أو حرفية أصحابها أو تجتذب كاتباً حديثَ العهد بالتأليف! وحين أعود إلى الكتب المعاصرة التي وُلدَت بآلاف النُّسخ بمعجزة آلة الطباعة، تحاصرني الحروف التي بُرمجت بأشكالٍ محدودة اعتمدتها الآلات المصنَّعة، وأرى أخطاءً من نمط الألف دون همزة تتكرر آلاف المرات من دون أن تحفل دارُ النشر باعتذار كما تفعل حين تطبع مخطوطاً يلتبس فيه معنى، وتُرْجعه إلى خطأ الناسخ الذي عاش في عصور سالفة!
كم يبدو الحرف المطبوع في الزمن المعاصر بارداً حين لا يكتمل، كحال الهمزة التي تميز المعنى فوق الألف أو تحتها، وحال التنوين إذا اختفى وترك الألف ضائعةً في فراغٍ وغربة كأنها عود ينحني لكل ريح، وهي خصائص أحسب أن اللغة العربية تتفرد بها عن لغات كل الشعوب!
دُمّر في بغداد أشهر سوق في التاريخ للوراقين، وما كان فيه أسلحة من أي نوع استشرس العدو الأمريكي للقضاء عليه، اللهمّ إلا سلاح الفكر الإنساني الذي حفظ إبداع الورّاقين في مدارس الخط العربي وورشات تعليمه بعد أن طوّحت الحداثة وما زالت، بكل جميلٍ وإنسانيٍّ وحميم!.