لوموند وأنا 

اعتدت منذ بداية عملي في تشرين أواخر سبعينيات القرن الماضي، أن اقضي أول ساعة من كل صباح في المكتبة العامرة بالصحف والمجلات الأجنبية التي كانت تردنا بشكل منتظم من وزارة الإعلام، وهي على الأغلب كبريات الصحف والمجلات الأسبوعية الفرنسية ك : لوموند، لوفيغارو، ليبراسيون، وجريدة الحزب الاشتراكي لوماتان، والحزب الشيوعي لومانيتيه، فضلاً عن أبرز المجلات الأسبوعية ك : باري ماتش والنوفل أوبزرفاتور ولوبوان والإكسبريس، إضافة إلى كوكبة من الصحف الأنغلوسكسونية ك: الإندبندنت والغارديان والفايننشيال تايمز والواشنطون بوست والنيويورك تايمز، إضافة إلى المجلات الأشهر نيوزويك والتايمز.
كان ذلك زمن الرخاء، حين كانت الوزارة تتمتع بإمكانات مادية تسمح لها بالاشتراك السنوي بمعظم الصحف والمجلات الكبرى في الغرب والوطن العربي، وهو بالمجمل مبلغ ضخم بالعملة الصعبة، وتقديم هذا الترف الفكري للصحفيين العاملين في مؤسساتها.
كانت تلك الساعة التي أقضيها صباح كل يوم في المكتبة مع أول فنجان قهوة، من أمتع الأوقات وأكثرها إثراء وشغفاً لمعرفة مايجري في أنحاء العالم وأنا أقلب صفحات تلك المطبوعات، مكتفياً في غالب الأحيان بقراءة العناوين الرئيسة والفرعية، لكن غالباً ما كنت أخرج من المكتبة بواحدة منها على الأقل، لقراءة مقالة أو تحقيق صحفي شدني من عناوينه وبعض السطور، وكانت المطبوعة التي تفوز كل يوم بشغفي لقراءتها، صحيفة لوموند.
ظلت علاقة الوجد مع هذه الصحيفة المتزنة تلازمني إلى أن وجدت نفسي ذات صباح من عام 1985 مدفوعاً بقوة إلى شارع الطليان في قلب مدينة باريس، حيث يوجد مبناها بطرازه المعماري الفخم الذي يعود إلى القرن الثامن عشر.
في بهو الصحيفة الرحب المفروش بأثاث فخم يتصدره مكتب استقبال واسع، يشبه إلى حد بعيد لوبي الفنادق ذوات الخمس نجوم، يضج بجلبة دخول وخروج العاملين والصحفيين، وقفت متسمراً بضع ثوان أسترق السمع لتحيات الصباح وبعض المداعبات المتبادلة فيما بينهم، منتظراً أن تنهي مضيفة الاستقبال مكالمتها على الهاتف كي أتقدم نحوها على الفور.
بماذا أستطيع أن أخدمك ياسيد؟ بادرتني وهي تغلق سماعة الهاتف بابتسامة ودودة.
أعطيتها بطاقة اتحاد الصحفيين السوريين كونها مدونة في الطرف الآخر باللغة الإنجليزية وقلت : أنا في زيارة لفرنسا وأرجو مقابله أي زميل في الجريدة.
أمسكت سماعة الهاتف ودمدمت بصوت خفيض، ثم التفتت نحوي وقالت : السيد جان بيبر بيرونسيل هيغو، رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريفيا بانتظارك في مكتبه بالطابق الأول. وأردفت: هل سبق أن التقيت معه من قبل؟ قلت: لا، لكنني أعرف كتاباته منذ سنوات.
ما إن وصلت آخر درجة في السلم المؤدي إلى الطابق الأول حتى وجدت السيد بيرونسيل هيغو في نهايته ينتظرني. مد يده مصافحاً ومرحباً باللهجة المصرية : أهلا بك يافندم . شرفت مكتبي وجريدتنا.
لم تفاجئني طريقة ترحيبه بلغة عربية جزيلة، لأنني أعرف مسبقاً أنه عمل زهاء عشر سنوات في الماضي مراسلاً للصحيفة في القاهرة، ومن الطبيعي أن يتحدث العربية بطلاقة. لكن ما إن أخذ الحوار بعداً أعمق من المجاملات، حتى تحول إلى الحديث بلغته الفرنسية لأنه كان بحاجة لأن يدافع عن بعض الأفكار العميقة التي أثرتها بحديثي معه، فكان لابد أن يتدرع بلغته الأم، وهذا أمر طبيعي أيضاً .
سألته: لماذا تتجاهل سورية في معظم كتاباتك عن العديد من بلدان الشرق الأوسط، وعندما تأتي على ذكرها في مناسبة ما، تختزل حديثك بعبارات نمطية تخلو من الموضوعية في غالب الأحيان وتفتقر إلى العاطفة التي أشعر بها وراء كل كلمة وفي ثنايا كل سطر عندما تتحدث عن مصر على وجه الخصوص؟
نهض من مكتبه وتوجه نحو البار الذي يزخر بالعديد من المشروبات الباردة والساخنة، وقال: سأجيبك على سؤالك الشيق بعد أن أعد فنجاني قهوة.
كان مكتبه رحباً جداً تغطي معظم جدرانه رفوف تغص بشتى صنوف الكتب، وطاولته الواسعة تزخر هي الأخرى بركام من الصحف والمجلات والأوراق، وربما مشاريع روايات وكتب لم تكتمل بعد.
حسنا يا زميلي العزيز. استانف جان بيير حديثه مع أول رشفة من فنجان قهوته قائلا: أنا أحب سورية ربما أكثر مما أحب مصر التي عشت فيها عقداً ونيف من الزمن. المشكلة عندكم يازميلي سعيد وليست عندنا. قلت كيف. هل لك أن توضح أكثر؟ فعقب بسؤال: هل تعرف ما الفرق بينكم وبين الشعب المصري بكافة طبقاته الاجتماعية؟. وأردف : إنهم يحبون بلدهم ويعتزون بتاريخهم الممتد بلا انقطاع منذ ثمانية آلاف عام. يحبون أهراماتهم ومومياواتهم والسلالات التي أسست أقوى الممالك في ذلك العصر السحيق، وصولاً إلى الفتح الإسلامي، الذي يعتبرونه امتداداً لتطورهم الحضاري وليس نقطة فارقة في تاريخهم.
ثم مد يده إلى ركام من الكتب المتناثرة فوق مكتبه، وناولني كتيباً من نحو مئة صفحة على غلافه صور دمار وأشلاء بشرية وعنوان بالخط العريض بالعربية “مجزرة حماة” ومثله باللغة الفرنسية من الطرف الآخر، وقال: اقرأ هذا الكتيب الطائفي الرديء الذي أنتجته المعارضة الإسلاموية السورية الدموية المسلحة، المدون باللغتين العربية والفرنسية، والموزع على كافة الصحف والمنتديات مجاناً. سوف تكتشف بنفسك من خلال مفردات الكراهية البغيضة المستخدمة، حجم الكراهية التي تختزنها هذه الفئة من السوريين لبلدها ولتاريخها، ومن يتنكر لتاريخه المشرف والناصع ويكره كل المكونات الأخرى من شعبه لأنها تختلف عنه، لن يجد أحداً في العالم يتعاطف معه، ومع قضيته، مهما كانت قضيته نبيلة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار