بين «أوبك» و«نو بك»… عالم أميركا ينهار

مها سلطان
في أدبيات «هوليوود»، الولايات المتحدة هي من أسست منظمة أوبك (منظمة الدول المصدرة للنفط) فهي من أدارت لعبة التأسيس سراً بين حلفائها من الدول النفطية، وعلى رأسها السعودية التي كانت المؤسس المُعلن للمنظمة في عام 1960 ومعها إيران والعراق والكويت، لتنضم بعدها – تباعاً – بقية الدول الأعضاء.
الرواية الهوليوودية قابلة للتصديق بنسبة كبيرة جداً..
أولاً : لأن هوليوود بمنزلة مرآة للسياسات الأميركية، كما أن «وول ستريت» مرآة للاقتصاد الأميركي.
وثانياً، لأن الولايات المتحدة ليست «قوة نفطية» أي ليست دولة منتجة للنفط، وعليها تالياً أن تحتوي مبكراً القوة المستقبلية للدول النفطية، بما فيها الدول الحليفة، وذلك من خلال تأطيرها ضمن منظمة تستطيع الهيمنة عليها.. وكان جلياً خلال العقود التي تلت التأسيس كيف أن أمن الطاقة الأميركي (وكل الاقتصاد الأميركي) ارتبط ارتباطاً مباشراً بقرارات أوبك، فالولايات المتحدة أحد أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، وأي خللٍ أو تهديد في إمدادات الطاقة، وعلى رأسها النفط ، هو كارثة بالنسبة لها.. ولا ننسى هنا كيف أن الدولار الأميركي مرتبط بالنفط ارتباطاً مباشراً كعملة عالمية مسيطرة.
فعلياً، طوال ستة عقود من عمر التأسيس، لم تشكل أوبك أي تهديد، أو مصدر قلق للولايات المتحدة، حتى عام 2014، أي بعد خمسة أعوام من اندلاع ما يُسمى “الربيع العربي” ، ويمكن عدّ ما حدث في هذا العام أنه أول مواجهة فعليّة بين الولايات المتحدة وأوبك، علماً أن التوترات كانت قد بدأت منذ بداية هذه الألفية مع صعود الصين كقوة اقتصادية غير قابلة للاحتواء.. ومع عودة روسيا إلى الساحة العالمية كقوة سياسية/عسكرية غير قابلة للإعادة إلى الوراء.
*
لندع تلك الرواية الهوليوودية جانباً، والتي استدعتها عودة الإدارة الأميركية للحديث عن معاقبة أوبك ومقاضاتها بتهمة «الإر*ه*ب» النفطي، من خلال احتكارها للنفط وبصورة عدائية للولايات المتحدة، حسبما تقوله هذه الإدارة.. كما أن هذه الرواية تستدعيها عملية المقارنة، من قبل ومن بعد، فيما يخص علاقة الولايات المتحدة مع أوبك، ومع الدول النفطية خارج أوبك، سواء أكانت هذه الرواية صحيحة أم لا.
نتحدث أولاً عما جرى في عام 2014 ونتائجه في عام 2016، ولنتحدث ثانياً عن ذلك المشروع الأميركي الذي أقرّته قبل أيام لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي لمقاضاة أوبك والمُسمى «نو بك – Nopec» أي «لا لأوبك» بحجة حماية المستهلك الأميركي.. ووفق المعمول به أميركياً فإن المشروع ينتظر موافقة مجلسي الشيوخ والنواب، ثم توقيع الرئيس جو بايدن، ليصبح قانوناً نافذاً.
**** ماذا حدث في عام 2014؟
في هذا العام، قادت السعودية- بالتواطؤ مع الولايات المتحدة وفي استهداف مباشر لروسيا- عملية تخفيض كبرى لأسعار النفط وصلت إلى ما دون 28 دولاراً للبرميل الواحد، وكانت النتائج كارثية، بكل معنى الكلمة، على الجميع، بما فيها السعودية. وفي تحليلات الاقتصاديين حينها أن السعودية لن تُقدم أبداً على خطوة مماثلة في المستقبل حتى لو كانت «الجائزة الكبرى» إيران.. وهذا ما حدث تماماً كما توقع الاقتصاديون ، لكن ما لم يتوقعوه أبداً، ولم تتوقعه الولايات المتحدة نفسها، أن تدير السعودية الدفة دورة كاملة باتجاه روسيا، لتقود ما يمكن تسميته بالانقلاب في منظمة أوبك وتفرضه على الولايات المتحدة، من دون أن تنجح كل تهديداتها في ثني السعودية عنه، لا بل إن الأخيرة تمسكت بانقلابها أكثر فأكثر، عاماً بعد عام، حتى اليوم.. وهكذا بعد أن كانت السعودية «حصان طروادة» الأمريكي داخل أوبك، باتت رأس حربة بيد روسيا (والصين) ضد الولايات المتحدة.
**** ماذا حدث في عام 2016؟

المحطة الرئيسة الكبرى في مسيرة أوبك كانت أواخر 2016 عندما اجتمعت دولها الأعضاء مع روسيا (وهي غير عضو في أوبك) لبحث تقليص إنتاج النفط من أجل لجم تخمة المعروض العالمي التي قادت إلى تهاوي الأسعار من 115 دولاراً للبرميل عام 2014 إلى أقل من 28 دولاراً كما ذكرنا سابقاً. وتوصل المجتمعون إلى اتفاق سُمي «أوبك +».. أي أوبك وشركاؤها، أي روسيا تحديداً التي تقود ما يسمى «المنتجين المستقلين» أي منتجي ومصدري النفط خارج أوبك. وقع «أوبك +» كان مدوياً في واشنطن: أولاً لأنه نصّب روسيا ( إلى جانب السعودية) شريكاً قائداً في أوبك، وثانياً لأنه يؤسس لنظام عالمي موازٍ في أهم محركات الاقتصاد العالمي وهو النفط . مدة اتفاق «أوبك +» كانت حتى نهاية 2018 ، لكن أوبك مددت الاتفاق، لتصبح بعدها عملية التمديد روتينية كل عام حتى اليوم… ولتصبح الخلافات والتوترات بين السعودية والولايات المتحدة أكبر وأعمق وأكثر علانيةً، ولتتجاوز هذه الأخيرة في تهديداتها واستفزازاتها للسعودية كل الأصول والأعراف في التعامل مع الدول ورؤسائها..

وصلت الاستفزازات إلى حد التجريح والإهانات والإذلال التي مارسها الرئيس السابق دونالد ترامب طوال سنوات ولايته الأربع.. لكن ذلك لم يدفع السعودية للتراجع.. وفي إدارة ترامب كان حديث معاقبة أوبك حاضراً لكنه ظل مجرد حديث لم يسع ترامب إلى وضعه موضع التنفيذ، حتى جاءت إدارة بايدن.
**** مشروع “نو بك”
يُقال إن المشروع ليس جديداً، وإن الموافقة عليه من قبل لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي هي تكرار روتيني مستمر منذ عام 2000 ولن يتجاوز الأمر ذلك، لكن هذا المشروع حينها كان الهدف منه دعم الإيثانول، ولا علاقة له بما يجري طرحه حول معاقبة أوبك. التطورات اللاحقة منذ عام 2014 دفعت واشنطن لتحويل القانون مباشرةً نحو أوبك، وعمل المشرّعون الأميركيون في عهد إدارة ترامب على صياغة مشروع حمل عنوان “لا لاحتكار النفط.. لا لأوبك”.
في عهد إدارة بايدن زادت الأوضاع سوءاً.. السعودية رفضت مراراً وتكراراً مطالبات واشنطن رفع الإنتاج النفطي.. واتخذت «أوبك+» المسار نفسه، مؤكدة أنه لن تكون هناك زيادة في الإنتاج إلا وفق المسار المعتمد، وهو ما سيتم خلال الشهر المقبل بمقدار 432 ألف برميل يومياً حسب اجتماع أوبك الوزاري في 5 أيار الجاري.. وهذا فعلياً هو دعم لروسيا بصورة غير مباشرة.
بعد يومين، قررت السعودية تخفيض أسعار النفط لأغلب عملائها مستثنية الولايات المتحدة من ذلك.
ويبدو أن هذا المسار لن يتوقف هنا، وعليه عاد الحديث عن «نو بك».. وهناك من يتوقع أن يتجاوز عتبة الكونغرس هذه المرة، ليجد طريقة إلى طاولة بايدن للتوقيع، وعلى مبدأ «عليَّ وعلى أعدائي».. أي إنه قد يتجاوز فعلياً مسألة التلويح والتهديدات الشفهية (وهدف إضعاف أوبك) إلى مسألة التنفيذ (وهدف تفكيك أوبك).
**** هل ستنجح أميركا في ترويض «أوبك» بـ «نو بك»؟
– حسب الأميركيين أنفسهم، فإن تأثير قانون «نو بك» سيكون صفرياً، وقد تأتي نتائجه على نحو معاكس، وبما يؤدي إلى قفزات كارثية في الأسعار داخل الولايات المتحدة نفسها، أما خارجياً فهو يهدد بتداعيات خطرة على المصالح والعلاقات الأميركية مع دول أوبك، خاصة دول الخليج وعلى رأسها السعودية.. أي إن الأميركيين سيكونون أول ضحاياه.. تماماً كما كانوا- مع الأوروبيين- أول ضحايا العقوبات التي فرضوها على روسيا إثر عمليتها الخاصة في أوكرانيا.
– أسواق النفط تحتاج إلى إدارة، وهذه هي مهمة أوبك والهدف من تأسيسها.. «أوبك» مع «أوبك+» هما مصدر الاستقرار في أسواق النفط العالمية، وأي إخلال بهذه المنظومة سيؤدي إلى إخلال بأمن واستقرار الأسواق وسيقود إلى فوضى عالمية من شبه المستحيل احتواؤها.
**** هل يمكن محاكمة أوبك؟
فعلياً.. لا تستطيع
– أوبك واحدة من منظمات الأمم المتحدة ، أي إنها محمية بقوانين دولية، وإذا ما نشب خلاف ما بين أعضائها، أو بينها وبين الولايات المتحدة, فإن الأمم المتحدة هي الحكم وليس المحاكم الأميركية.
– وإذا ما افترضنا أن الولايات المتحدة قررت تنفيذ المحاكمات أمام محاكمها.. فكيف ستحاكم أوبك.. ستحاكم دولها أم رؤساءها أم شركات النفط /الوطنية أم الخاصة/.. لنذكر هنا أن أبرز الشركات العاملة في مجال النفط والطاقة حول العالم هي شركات أميركية وأوروبية في دول أعضاء في «أوبك+».
– تنتج دول أوبك (من دون روسيا) 42% من النفط العالمي، وتملك 73% من الاحتياطي العالمي للنفط .. تستهلك الولايات المتحدة 20 مليون برميل نفط يومياً.. فإذا ما أطلقت مسار محاكمات، فإن ذلك سيثير حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في العرض والطلب، وتالياً في الأسعار.. ما سيهدد إمدادات الطاقة إلى الولايات المتحدة، أو قد تنقطع كلياً في حال قررت دول «أوبك+» الرد بإجراءات انتقامية.

– هنا لن ينفع الولايات المتحدة مبدأ «عليَّ وعلى أعدائي» وعليها أن تفكر مليون مرة قبل اعتماد «نو بك».. ربما الأجدى هنا أن تدير الدفة بعيداً عن عاصفة عاتية مقبلة تراها بأمّ العين، تماماً كما فعلت السعودية في عام 2016. أميركا لم تعد اليوم أمام معادلة «أن تفوز مرة واحدة ونهائية، أو تخسر وتنكفىء بصورة نهائية» .. أميركا اليوم في موقع احتواء الخسائر وعليها أن تبني سياساتها المقبلة على هذا الأساس.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار