عبد المنعم علي عيسى
عصر يوم 14 أيار من العام 1948 أعلن ديفيد بن غوريون عن قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين التاريخية، وإن كان قد اتفق على أن يصبح اليوم التالي، السبت 15 أيار، موعداً لإحياء قيام “الورم” ذي الطابع الاستيطاني الرامي للهيمنة على المنطقة انطلاقاً من محاولة تفتيتها كوسيلة وحيدة للتمكين وإطالة أمد البقاء.
استند المشروع في بعده الإيديولوجي إلى المناخات التي استولدتها أحداث الحرب العالمية الثانية، وإلى حال من الوهن كانت تعيشه الدول العربية التي كانت تحبو باتجاه تثبيت ركائز استقلال حديث العهد آنذاك، ثم إلى دعم غربي كان يرى أن توريث الكيان نسيجاً متفوقاً، اقتصادياً وعلمياً واجتماعياً، هو أمر كفيل بتثبيت أركانه، أما الأدوات المستخدمة فتبدأ، وتنتهي، عند ممارسة العنف والقتل بأقصى درجاته دفعاً بالمحيطين الداخلي والمجاور إلى الدخول في حالة “الرهاب” من ذلك الورم القادر دوماً على استيلاد المزيد منهما.
اليوم، في العام الرابع والسبعين لقيام الورم، هناك الكثير من المعطيات التي تشير إلى دخول المشروع مرحلة انحساره والتي بدأت مع ظهور حال من “الكسل الوظيفي” في عدوان تموز 2006 ثم سرعان ما تعمق الظهور آنف الذكر من خلال الاعتداءات على غزة والتي كان آخرها العام الماضي.
الدول والأحزاب والتيارات هي بنى، تظهر علامات دالة على اقتراب موتها، فيما طيف العلامات يبدأ هنا عند البنيوية ويمر بظواهر إقليمية وصولاً إلى نظيرة لها دولية، وفي الأولى منها، أي البنيوية، يمكن القول إن طي مرحلة التأسيس التي قادها زعماء العصابات الصهيونية، وانتقال السلطة إلى الجيل الثاني يبدو ثقيل الوطأة على الكيان، فالأخير لم يرث عن الأول سوى نهجه في ممارسة القتل والإرهاب في حين أنه يبدو أقل قدرة على جمع المعادلات التي رسمها المؤسسون تلك الكفيلة بإطالة أمد البقاء، وفي السياق عينه كان الشارع الفلسطيني يبدي ثباتاً عند الهوية المتجذرة على أرضها بعيداً عن المصطلحات التي يجري تسويقها، والتي تندرج في سياقات التذويب و اقتلاع الجذور.
وفي الثانية، أي الإقليمية، يبدو الكيان مدركاً جيداً لحقيقة مفادها أن المعاهدات التي عقدها مع العديد من الأنظمة العربية لا تعني بالضرورة حضور “السلام” وتحقيق هواجس الأمن التي تبدو ضاغطة على الأعصاب بدرجة قصوى، فالشارع العربي ظل -رغم كل تلك المعاهدات- بعيداً عن قبول “الصلح” مع كيان ما انفك يمارس الاعتداء والإر*ه*اب وسيلة وحيدة للبقاء، ويمارس العنصرية وسيلة وحيدة للهيمنة.
أما في الثالثة، أي الدولية، فإن المناخات التي تستحضرها الحرب الأوكرانية تشي بانزياحات كبرى وشيكة الحدوث، ولعل أخطرها على الكيان يكمن في قدرة الصين على التمكين لصعود دورها العالمي، الأمر الذي سوف تكون له تداعياته السلبية على ذلك الكيان، فمشروع “الحزام والطريق” سوف يدخل ما بعد انتهاء الحرب الأوكرانية مرحلة جديدة تعمد بكين من خلالها لتوسعة الطرقات التي تصلها بنصف سكان المعمورة، والفعل من حيث النتيجة سوف يجعل من الشرق الأوسط، وفلسطين المحتلة في قلبه، ساحة لصراع دولي كبير مما لا تحتمله تركيبة الكيان التي تستند أصلاً إلى حبل مشيمة يصلها بالغرب كضمانة لإطالة البقاء.
في الذكرى الرابعة والسبعين للإعلان عن قيام “دولة إسرائيل” تبدو الأخيرة في حال هو الأضعف مما كانت عليه في أي يوم من الأيام، فالكيان الذي نجح، بدعم غربي غير محدود، يبدو اليوم عاجزاً عن تحقيق أمن له في الداخل، والتناقض الأخير سوف يدفع، جنباً إلى جنب تناقضات أخرى، بالعربة نحو مسار هبوط لن تكون “القاطرة” الغربية معه ذات أثر مفيد في وقف ذلك المسار.