يمكن القول إن الانتخابات التركية المقررة شهر حزيران من العام المقبل هي أشبه بـ ” اختناق ” سوف يقود العبور منه لحالة سوف تكون مختلفة، على الأرجح، عن تلك التي كان عليها قبيل العبور آنف الذكر، والمؤكد هو أنها ، أي تلك الانتخابات، هي الأهم منذ وصول حزب ” العدالة والتنمية ” إلى السلطة في أنقرة العام 2002 ، ولربما كانت الأهم بالنسبة للبلاد منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، تنازعت خلالها البلاد خيارات عدة كانت تتعلق بتحديد الهوية التركية، بدءاً من الطورانية التي سادت ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي 1991، ومروراً بالإسلامية التي مثلها صعود حزب ” الرفاه ” الإسلامي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ثم وصولاً إلى ” العثمانية الجديدة ” التي ظهرت عند رجب طيب أردوغان .
الأهمية الاستثنائية هنا تتأتى من اعتبارات عديدة، أبرزها أن المناخات الداخلية تبدو جاهزة تماماً لحدوث تغيير كبير من النوع الانعطافي الذي يتيح طي مرحلة امتدت عقدين من الزمن، وهي في مجملها كانت ثقيلة الوطأة على الداخل، وعلى جواره، بفعل السياسات الزئبقية التي انتهجها النظام في علاقاته الدولية، كمحاولة يرمي من خلالها إلى تمرير مشروعه الإقليمي الرامي هو الآخر إلى تسويق “الأخونة ” في المنطقة الممتدة من الخليج العربي إلى أقصى المغرب وسيلة للهيمنة على المنطقة، فيما الجاهزية سابقة الذكر تفرضها سياقات اقتصادية بالدرجة الأولى من دون أن يعني ذلك أن سياقات السياسة أيضاً بعيدة عنها، فالأزمة الاقتصادية، التي تظهر العديد من المؤشرات، على أنها ماضية في خطها التصاعدي تصيب “مشروعية ” الحزب الحاكم في مقتل، بعد أن ابتنى هذا الأخير تلك ” المشروعية ” على بحبوحة اقتصادية عاشتها البلاد ما بعد وصوله للسلطة، على الرغم من أن الفعل كان نتاجاً لمفاعيل تراكمية لحكومات سابقة، ونتاجاً أيضاً لظروف إقليمية و دولية كانت خادمة له، وفي السياق عينه تبدو الانهيارات التي شهدها المشروع “الإخواني ” في تونس ومصر وليبيا وصولاً إلى سورية، قد بدأت تعطي ثمارها لجهة مراجعة العديد من التيارات على الساحة السياسية لتلك الخيارات ومحاولة الاستثمار فيها في محاولة لإسقاط حكم “العدالة والتنمية ” ومعه حكم رجب طيب أردوغان ، حيث القلق المتولد هنا بمفاعيل اقتصادية، وأخرى تتعلق بوجود ” اللاجئين السوريين “، يمثل فرصة سانحة للمعارضة للنجاح في فعل كهذا، وهو أمر ممكن فعلاً إذا ما توحدت هذي الأخيرة ولو تحت سقوف منخفضة، ثم خرجت ببرنامج اقتصادي يقنع الشارع التركي بإمكانية تحقيق إصلاح لاقتصاد مأزوم ، وجلّ أزماته جاءت نتيجة السياسات التي انتهجها النظام في المحيطين الإقليمي والدولي .
نقطة ضعف المعارضة الكبرى هي تلك التي تتمثل في الخلاف حول ضرورة العودة إلى النظام البرلماني الذي ألغاه أردوغان بعد استفتاء أجري العام 2017 لتدخل البلاد في النظام الرئاسي الذي أقرَّ بدءاً من العام الذي تلا هذا العام الأخير، والمؤكد أن جلّ التيارات والأحزاب السياسية التركية باتت تنظر إلى ذلك الفعل على أنه من النوع المعوق لحركة الاقتصاد ولحراك المجتمع السياسي والثقافي خصوصاً أن دوافعه الكبرى كانت نتاجاً لمطامح شخصية بعيدة كل البعد عن احتياجات تلك الحركتين، وما يزيد من فعالية تلك النظرة هو أن حزب ” العدالة والتنمية ” نفسه منقسم حولها .
كنتيجة، يمكن القول إن كل الظروف السائدة راهناً في الداخل التركي تبدو مهيأة لحدوث انعطافة في خيارات السياسة التركية التي سادت على امتداد العقدين الفائتين، وإن كان من المبكر اليوم التنبؤ بالزوايا التي يمكن لتلك الانعطافة أن تنتجها، إلّا أن حدثاً من نوع سقوط حكم حزب ” العدالة والتنمية “، فيما لو حدث، سوف يكون أمراً إيجابياً، أقله كون الحدث، الذي يعني هنا انكسار المشروع الذي حمله ذلك الحزب، سوف يفرض على أي سلطة قادمة أخذ الفعل، وكذلك تداعياته على الداخل التركي، بالحسبان.
قد يعجبك ايضا