عمرة اردوغان و سقوط «الخلافة»

على وقع الانزياحات الحاصلة في المشهد السياسي التركي التي راحت تحفر أخاديدها قبيل أن ترسم ملامحها النهائية العام 2023 الذي سيشهد الانتخابات الرئاسية التي تبدو محطة مفصلية، إما أن تفضي إلى سقوط حكم حزب «العدالة والتنمية»، وإما أن تدخل البلاد في أتون أزمة سياسية حادة من الصعب التكهن بالنتائج التي ستفضي إليها، نقول على ذلك الوقع بدا رجب أردوغان ساعياً لمد جسوره الإقليمية التي قطعها خدمة لمشروعه الرامي لاستعادة «الخلافة» التي أقامها أسلافه لمدة تزيد على أربعة قرون قبيل أن تسقط مطلع القرن العشرين، والفعل من حيث النتيجة كان ذا مفاعيل وارتدادات داخلية لم تشفَ تركيا منها حتى الآن ، الأمر الذي يفسر تغيير هذي الأخيرة للبوسها أربع مرات في غضون قرن لا يزيد، فبعيد سقوط «الخلافة» العام 1923 اختارت تركيا العلمانية ثم الإسلامية فالطورانية ثم العثمانية الجديدة التي جاءت عند أردوغان مزيجاً ما بين القديمة منها وبين الإسلام وفق طبعته الإخوانية .

سيشهد سياق العودة إلى سياسة مد الجسور آنفة الذكر محطات عدة كانت البداية فيها مع الإمارات تلتها مصر ، فالعمل على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ، ليحط السياق رحاله مؤخراً في السعودية التي بدا على أردوغان أنه يوليها أهمية قصوى تبعاً لاحتياجات الداخل التركي المأزوم اقتصادياً ، ثم لاعتبارات تتعلق بالزعامة الإسلامية التي كانت محلَّ تجاذب فيما بين الطرفين على امتداد عقدين هما عمر وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى سدة السلطة في أنقرة .

بدأت محاولات أردوغان لفتح القنوات مع الرياض قبل نحو عام ، لكنها تعثرت لاعتبارات عدة من نوع الخلاف على التنازلات التي ينبغي على الطرفين تقديمها ، بل وعلى الإطار الذي يجب أن يتخذه الفعل ، بمعنى؛ من يزور من ، وما هو التوقيت الأنسب للإعلان عنه؟ لكنها، أي تلك المحاولات، بدأت تتخذ في غضون الأشهر الأخيرة شكلاً محموماً عند أردوغان قياساً باتساع الشرخ الحاصل في المشهد السياسي الداخلي ، ثم تبعاً لمفاعيل أظهرتها الأزمة الأوكرانية ، وأخرى من المنتظر أن تقذف بها هذي الأخيرة في مقبل الأيام فتطغى على ذلك المشهد ، ما اقتضى محاولة الشروع في بناء «سدّ» هنا ، و «سدّ» هناك .

رسمت الطريقة التي تمت بها الزيارة التي قام بها أردوغان للسعودية مؤخراً صورة توحي بأن الأخير مضى في تقديم المزيد من التنازلات التي سبق له أن بدأها عبر رميه «قميص» خاشقجي الشهر قبل الماضي عندما وافق على توكيل القضاء السعودي للبت بمقتل هذا الأخير، ومن المؤكد أن ثمة صفقة كان قد هيأ لها هذا الفعل الذي سبق لأردوغان أن رفعه شماعة لإسقاط حكم ولي العهد السعودي ، والراجح هو أن الصفقة قد تمت على هامش «العمرة» التي كانت أشبه بإعلان سقوط «مشروع الخلافة» الذي رفع رايته أردوغان منذ نحو عقدين من الزمن ، وأثمانها اقتصادية بالدرجة الأولى ، ولربما طالت النقاش حول الدور الذي تقوم به أنقرة في كل من سورية والعراق وليبيا ، ثم العلاقة مع حركات «الإسلام السياسي» التي لطالما استخدمها أردوغان كأذرع للتمدد في المحيط، من دون أن تكون العلائم ، أي علائم الصفقة ، واضحة في هذين المحورين الأخيرين .

في مطلق الأحوال تمثل الزيارة هزيمة لمشروع (أخونة) المنطقة، وحدوثها هو دلالة على انحسار ذلك المشروع، ولربما كان من الممكن استثمارها بطرق أكثر نجاعة فيما لو كانت تراصفات الرياض أكثر وضوحاً مما هي عليه الآن .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار