أعطال في نظام التحكم الأمريكي
كانت محطة 24 شباط 2022 انعطافية في مسار العلاقة ما بين الشرق والغرب عموماً، وفي مسار العلاقة الروسية مع هذا الأخير على وجه الخصوص، وفيما بعدها راحت الولايات المتحدة تعمل على زيادة حدة الاستقطاب الدولي عبر الدفع ببلدانه إلى مغادرة سياسة الحياد، والذهاب بعيداً في لعبة التراصفات التي تعني، أمريكياً، الاختيار ما بين “الأبيض والأسود” .
عملت واشنطن منذ عام 2014 على مراكمة الجمر واختزانه في الداخل الأوكراني، قبيل أن تذهب إلى ذروته مطلع العام الجاري وصولاً إلى اندلاع النار، وكانت الحسابات الأمريكية، في بعض منها، تقوم على أن اندلاع الحرب في أوكرانيا من شأنه أن يؤدي إلى استعادة قبضتها على القارة الأوروبية التي سجلت، زمن القطب الأوحد، عبر محطات عديدة، حالاً من التفلت من تلك القبضة والفعل، أي إن إحكام القبضة الأمريكية على أوروبا كانت مراميه الأبعد تذهب نحو الشد بالأخيرة لجهة الخندق الأمريكي الساعي، منذ نحو عقد، لترميم ” أكياسه ” تحسباً للمنازلة الكبرى مع الصين التي ستحدد نتائجها مآلات القرن الحادي والعشرين، هذا المسعى تزايد في السنوات الأخيرة بُعيد فشل واشنطن في اجتذاب موسكو لذلك الخندق، ولربما كان ذلك سبباً مهماً من الأسباب التي دفعت الأولى لتفجير الوضع في أوكرانيا بوجه الأخيرة، وما جرى هو أن أوروبا، التي استعملتها الولايات المتحدة على امتداد الحرب الباردة وثلاثة عقود تلتها، أظهرت عند أول اختبار جدي ميلا نحو إيقاظ عصبيات ونزعات قومية سبق أن مارست في مراحل عدة دور الوقود الإيديولوجي الداعم لإثارة الحروب.. والنزعة ” الن*ازي*ة ” ، التي استحضرتها سلطات كييف قبيل وقت ليس بالقصير ثم قويت شوكتها بعد العملية العسكرية الروسية بدعم من تلك السلطات، ستشهد ارتدادات لها في بلدان أوروبية شديدة الحساسية، ولربما ستكون تلك النزعة على موعد مع التنامي تدريجياً على وقع الشحن الإعلامي الذي تقوده مؤسسات عملاقة، والمؤكد هو أن الانزياحات الثقافية والمجتمعية الحاصلة في نسيج القارة، ما بعد 24 شباط الماضي، كانت قد دلت على هشاشة في البنيان، مما تشير إليه الانزياحات السابقة، على عكس الصورة التي تحاول القارة العجوز الظهور بها أمام العالم، بل دلت أيضاً على هشاشة حضارية كانت قد تمظهرت في تنامي نزعة العداء تجاه شعب قدم للحضارة الأوروبية أكثر مما أخذ منها، ولا أدل على ذلك من القرار الذي اتخذته جامعات إيطالية بإلغاء تدريس الأدب الروسي في مناهجها.
فشلت الولايات المتحدة في إحكام قبضتها على الحلفاء ما وراء الأطلسي، بل ربما كانت ردة الفعل عكسية عند هذه الأخيرة التي أظهرت سياساتها المتبعة ما بعد اندلاع النار الأوكرانية مزيداً من التفلت مما تشي به خصوصاً مواقف برلين وباريس على حد سواء، الأمر الذي استدعى توسعة فتحة “البيكار” الناظم لمحاولات واشنطن في حصار موسكو، وفي هذا السياق كانت الجهود قد جاءت بنتائج لا تقلّ بؤساً عن تلك السابقة، فوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي ضبط متلبساً بثياب ” البسوس”، انطلق مؤخراً في جولة مكوكية طالت دولاً عدة وفي ختامها كانت محطة الجزائر التي زارها في 30 آذار الماضي والتقى فيها نظيره الجزائري قبيل أن يلتقي رئيس البلاد، حيث قال في أعقاب ذينك اللقاءين “آلام الغزو الروسي لأوكرانيا امتدت إلى العالم العربي بارتفاع أسعار القمح “، ثم مضى إلى دعوة دول المنطقة إلى الوقوف مع ” الضحية والمبادئ “، وكلا التصريحين يشيران إلى فضيحة من العيار الثقيل، فأمريكا مهتمة بالآلام التي تعيشها المنطقة! وكأن بلينكن لا يعرف أن بلاده مارست سياسة الحصار والتجويع على العراق لمدة تزيد على ثلاثة عقود ومدة أخرى تقترب من عقد على الشعب السوري.
لم تنجح واشنطن في إزاحة بكين من مواقعها، ولا نجحت في فعل نظير له مع نيودلهي، والفشل في الجزائر كان بادياً هو أيضاً، أما محطة باكستان فكانت إيذاناً بتهتك داخل “النسيج” الحليف، الفعل الذي ظهر أيضاً في تباشير له عند بعض دول الخليج.