” ديمقراطية أمريكية ” مخصصة للتصدير
حظيت الجغرافيا الباكستانية منذ حصولها على الاستقلال عام 1947 باهتمام أمريكي خصوصاً بعد حلول نظام القطبية الثنائي الذي ساد العالم في أعقاب وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها صيف العام 1945 ، فهي ؛ أي تلك الجغرافيا، تقع على حدود القطب السوفييتي جنباً إلى جنب لكونها تقع على ” خط الزلزال ” الممتد منها وصولاً حتى المغرب العربي ، والحظوة عينها لم تتغير كثيراً ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ، فقد جاءت التحولات الجيو-سياسية التي شهدتها المنطقة ، ما بعد هذا الحدث الأخير، لتعزز من ذلك الفعل، هذا إن لم تؤدِّ إلى مضاعفته بدرجة كبيرة ، فالتحولات التي شهدتها دولة الجوار ؛ أفغانستان ، بدءاً من منتصف التسعينيات ، التي شهدت وصول حركة ” طالبان ” إلى السلطة في كابول ، ثم وصولاً إلى اتهام تنظيم ” القاعدة ” ، المستظل برداء تلك الحركة ، بالوقوف وراء الهجمات التي طالت برجي التجارة العالميين في نيويورك أيلول من العام 2001 ، كان سبباً كافياً لوجوب أن تظل الجغرافيا الباكستانية على مرأى من العين الأمريكية ، زادت من ذلك عوامل عدة راحت تتراكم منذ مطلع الألفية الراهنة كان من أبرزها حالة النهوض ، في الجار ” المباشر ” الإيراني ، ثم حالة النهوض في الجار “غير المباشر” الروسي ، وكلا النهوضين كان يصنف بالمقاييس الأمريكية على أنه من النوع المعادي لهذه الأخيرة .
لم تكن الولايات المتحدة راضية عن وصول عمران خان إلى سدة السلطة في إسلام آباد 2018 ، فالرجل ظهر منذ أن قدم برنامجه ، قبيل ذلك الوصول ، وكأنه يميل لإملاءات الجغرافيا والتاريخ في صناعة السياسة ، لكنها ، أي الولايات المتحدة ، أظهرت قابلية للتعايش مع تلك الحالة طالما بقيت المناخات السائدة في محيطها باردة ، الأمر الذي كان يعني سلفاً مغادرتها لتلك القابلية حال مغادرة المناخات لصفتها سابقة الذكر .
مع بداية التأزم الحاصل في الوضع الأوكراني مطلع هذا العام وصولاً إلى انفجاره أواخر شهر شباط المنصرم ، راحت السياسات التي يعتمدها عمران خان تراكم القلق تلو القلق على الضفة الأمريكية ، كانت البداية في ” شكواه ” من التضحيات المطلوبة من بلاده للانضمام على ” الحرب على الإرهاب ” التي كانت أطلقتها واشنطن في أعقاب أحداث نيويورك 2001 ، وفي 6 آذار رد على طلب البعثات الدبلوماسية الأوربية القاضي بوجوب ” إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ” بالقول: «هل تظنون أننا عبيدٌ لكم » ، كان ذلك الرد قد مثل ذروة في نهجه آنف الذكر الذي يقول بوجوب أن تتساوق صناعة السياسة مع حقائق الجغرافيا والتاريخ .
سيخرق عمران خان حاجز المحرمات يوم 31 آذار بقوله إن سفير بلاده في واشنطن أرسل ” رسالة ” سرعان ما ذهب الإعلام الباكساني إلى عرض فحواها ، فالمسؤول الأمريكي الذي التقاه السفير قال صراحة له و من دون إيماء إن ” العلاقات بين البلدين ستكون أفضل إذا ترك رئيس الوزراء مهامه ” ، ولما ذهب ، خان ، بعيداً في التحدي ، مسجلاً في يوم 3 نيسان الجاري ، الذي رفض فيه رئيس البرلمان التصويت على سحب الثقة من رئيس الحكومة ثم الحصول على موافقة رئيس البلاد بحل البرلمان ، لموقف حاسم و ناجح في مواجهة الضغوط الأمريكية الرامية إلى إبعاده عن السلطة مادامت المواقف لن تتغير، الأمر الذي استدعى قيام واشنطن بتحريك أذرعها تارة عبر المحكمة الدستورية التي ألغت قرار حلّ البرلمان ، وطوراً عبر شراء الذمم الذي وصل هذه المرة إلى نواب حركة ” إنصاف ” التي يستند إليها خان في البرلمان لاستمرار حكمه .
استطاعت واشنطن ، عبر الفعلين السابقين ، تمرير تصويت يقضي بحجب الثقة عن رئيس الوزراء المنتخب على الطريقة التي تجهد واشنطن لتسويقها يوم 9 نيسان ، وما تشير إليه الاستطاعة السابقة هو أن واشنطن ترى أن ” الديمقراطيات ” التي تحاول تصديرها للخارج ، لا يمكن لها أن تصل لدرجة الكمال ما لم تلبِّ مصالح ” مسوق النموذج ” .
بخروج عمران خان من السلطة تكون باكستان قد دخلت منعرجاً من الصعب الآن التنبؤ بالمآلات التي يمكن أن يفضي إليها ، لكن هذا ليس مهما بالقراءة الأمريكية ، والمهم هو أن تصبح ” الديمقراطية ” الباكستانية أكثر مطواعية لتلبية الاحتياجات التي ما انفكت واشنطن تعلي من جدرانها تبعاً لمطالب المرحلة .