لا يُعوّل على نص بصري أو سردي يخلو منها!!
وفي زمن الحروب والتوحش على أشدهما إيغالاً في البشرية؛ قد يبدو الحديث عن “الرومانتيكية” نوعاً من البطر الثقافي.. لكن مع التأمل القليل للأمر؛ فإنّ أكثر ما يُمكن أن “تكيدَ” به الحرب والقباحة، هو أن تمدّ لسان الرومانتيكية في وجهها.. وقبل الحديث عن الرومانتيكية دعونا نتذكر قليلاً أنه حتى وقت قريب، كان النقاد يتحدثون عن رمزية سعيد عقل، ورومانسية إلياس أبو شبكة ونديم محمد، وكان الحديث ينسحب أيضاً لغير الشعر من الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، فكثيراً ما تحدث النقاد أيضاً عن واقعية روايات فارس زرزور، وعن الواقعية الاشتراكية في روايات أخرى، ومنذ فترة قريبة أيضاً انتهى الحديث عن الواقعية السحرية التي جاءت مع ترجمة الرواية من أميركا اللاتينية..!! وهكذا الأمر بالنسبة للوحة التشكيلية، فهذه سوريالية، وأخرى تكعيبية، وتالية تعبيرية، وفي مجال الأغنية والفيلم السينمائي، إذ كان يوصف بالرومانسي والكلاسيكي..!
اليوم ومنذ نهايات القرن الماضي، اندثر الحديث عن المدارس والمذاهب الأدبية سواء في الشعر، أو في غيره من الأجناس الأدبية والفنية، ذلك أن “المدارس” التي وجدت في نهاية القرن التاسع عشر من خلال تجمعات الفنانين الفرنسيين الذين حاصروا النهضة الصناعية في أوروبا، وأرادوا أن يطرحوا أفكاراً جديدة حول رؤيتهم للحياة من حولهم، وأن يطوّروا اللوحة الفنية في موازاة التّطور الذي حدث في الشعر والمسرح والرواية، والتطور الذي حدث في الصناعة.. ولأن نمط الحياة نفسها يتغير مع الزمن، تتغير التقاليد واللغات ووسائل الاتصال ومشاعر الناس وأحلامهم ومخاوفهم وطموحاتهم، إذاً لماذا لا تتغير الكتابة والرسم والعمارة والموسيقا والسينما، فالحداثة الغربية على سبيل المثال عززت شعرية الفرد على حساب شعرية الجماعة الأدبية، ولم يقتصر ذلك على الشعر فقط، وإنما تعدّاه إلى الأجناس الأدبية، وكل الفنون بما أتاح له علم النفس منذ فرويد وعلم الاجتماع، فصار كلُّ شاعرٍ مبدعٍ مدرسةً إلى حدٍّ كبير، فانتشرت في العالم العربي مثلاً مدارس وتيارات قائمة حول الشخص ذاته، نقول بالقصيدة الأدونيسية مثلاً، أو القصيدة الماغوطية، كما صرنا نقول بقصصية يوسف إدريس، ورواية ما بعد نجيب محفوظ..!!
اليوم لم يعد الحديث عن اندثار المدرسة وانقراض المذهب وحسب، بل صرنا في زمن التخلص حتى من الجنس الأدبي ذاته لدرجة نفيه وإقصائه، كما تطالب بعض الأصوات الإبداعية، التي ترى أن الكتابة ضد الضبط والتحديد والتأطير والتصنيف، وتؤكد أنه لا قداسة للنوع والكتابة، ومن ثم تأتي ضرورة إسقاط الحدود بينها..!!
ومع ذلك ثمة من يتنبأ اليوم، بعودة الرومانتيكية، التي ستكون سمة رواية المستقبل العربية، التي ستأتي من الصحراء، وأعالي الجبال، وضفاف الأنهار والشواطئ، وذلك بسبب اليباس الذي يلف حياتنا، والذي ينتج إبداعه الروائي القائم على التناقض، وليس على التكامل كما كان قديماً.. كما أن تأخر ظهور الرومانتيكية في العالم العربي، وجبران خليل جبران – ربما- كان أول ممثليها في إعلان صوت الفرد مع نفحة التمرد، ورغبة الانعتاق من الموروث القديم للجماعة على الصعد كلها، لم يستمر طويلاً، ومن ثمّ كان الناس وحتى الكتاب، الذين دهمتهم قضايا أكثر إلحاحاً، أنهم لم يشبعوا من الرومانتيكية، ولم يعيشوها كما يجب، حتى صار أمر عودتها، وإن كان بمظاهر وملامح أخرى، يبدو أنه بات وشيكاً، إن لم يكن ضرورياً، ولأكثر من سبب..!
حتى في الغرب الذي ننعته بـ”المادي” أو كلما أردنا أن نصفي معه حساب تقصيرنا بركب الحضارة التي تجاوزتنا كثيراً بمراحلها، ثمة نغمة رومانتيكية نتلمسها في الكثير من الإبداعات التي تأتينا من تلك الضفة من العالم، أي أن الرومانتيكية لم تفارق هذا الغرب رغم كل ثورات التنكولوجيا، فهو لا يزال يعشق الأسطورة، ويتعلق بجبالها، ولا يزال الناس في الشرق أو في الغرب تتفاءل وتتشاءم، تسأل الغيب أسراره في كف اليد، أو قاع فنجان، أو في أطياف الضوء المنعكسة على جدران كرة من الزجاج.. لابدّ لإيقاع الحياة عند الأغلبية من البشر، وقد انسجم مع أصوات أجراس الكنائس، وأذان الجوامع، أن يكون له ما يعادله في الإبداع أياً كان جنس هذا الإبداع، لأن “الواقع” ليس فقط اللهاث فوق الأرض أو تحتها بحثاً عن لقمة الخبز، بل هناك واقع آخر في أعماق الضمير يهمس للإنسان بلغة الصمت.. كيف للمبدع أن يتجاهل أصوات الطيور، وهدير البحر، وصفير الرياح، وهسهسات الشجر، هذه كلها وملايين الإيقاعات في الكون هي موسيقا الوجود، حيث لا يفعل الملحن أكثر ما يفعله الروائي، أو الشاعر، حين يوالف بين أصوات الطبيعة، وأصوات البشر، فيعيد صياغتها على نحوٍ جديد..! حتى إن اليوم ثمة من يرى أنّ من أسباب انتشار بعض أنواع الدراما التلفزيونية في العالم العربي، هذه السمة الرومانسية التي توسم أحداث هذه المسلسلات، أي الانتباه إلى صوت الفرد، وهذا ما فعلته الرومانتيكية في بداياتها وقبل أن
تصير اتجاهاً في الفن وفي الكتابة، ومن ثمّ يكون لها أقطابها ورموزها.. وكما تأخر ظهور الرومانتيكية في العالم العربي، بدأ مع مطالع القرن العشرين، إعلان صوت الفرد مع نفحة التمرد، ورغبة الانعتاق من الموروث القديم للجماعة على الصعد كافة، أيضاً كان هذا الظهور قصيراً أي لم يستمر طويلاً.. وهو ما نتلمّس عودته في عشرات الأعمال الإبداعية اليوم من سينما ومسرح وقصة ولوحة تشكيلية.. مع إنّ من الظلم أن نقول إن الرومانتيكية قد غابت تماماً عن المنجز الإبداعي العربي، فملامح هذه الرومانتيكية كانت سمة للكثير من هذا النتاج على تنوعه، وأظن أنه ستكون إحدى أهم الكتابات الجديدة اليوم..