بلا كهرباء وغاز.. حرفيو النحاس يدقون ناقوس الخطر: مصلحتنا على طريق الانقراض
يحاول الحرفي يحيى نحاس، الذي ورث الحرفة أباً عن جد منع حرفته العريقة من الانقراض بعد ما فعلته الحرب وتركته من آثار سوداء على سوق النحاسين.
يتواجد في السوق عدد محدود من حرفيي النحاس يعدون على الأصابع من أصل 200 تقريباً بعضهم هاجر إلى تركيا وألمانيا, وبعضهم الآخر مات.
ليجهد الحرفيون المتبقون ومنهم 4 من عائلة “النحاس” منع موت هذه الحرفة والمحافظة على أرزاقهم في ظل ظروف صعبة طالت حرفة النحاس كغيرها من الحرف والصناعات من دون تقديم أي دعم يضمن استمرار الحرفيين المتبقين في العمل بهذه الحرفة.
بلا دعم
سوق النحاسين الذي يقع في منطقة باب الحديد في حلب القديمة تعرض كغيره من أسواق مدينة حلب القديمة إلى تخريب ودمار كبيرين، لكن اللافت أن هذا السوق الحيوي بعد تحرير المدينة من الإرهاب ظل بعيداً عن اهتمام المعنيين، ولم يلقَ الدعم كغيره من الأسواق الأخرى، فإلى اليوم لا تزال الكهرباء مقطوعة عن هذه المنطقة التي تضم عدداً كبيراً من الحرف التراثية الهامة، حيث لا تصلهم في اليوم إلا ساعتين، وقد يكون ذلك خلال ساعات المساء لكونها تعامل كمناطق سكنية، علماً أن الكهرباء تعد ضرورية لحرفة النحاسين تحديداً، ليستعيضوا عنها لتدبير أمورهم وعدم هجر محالهم المحدودة المساحة بالغاز الصناعي.
لكن فجأة ومن دون سابق إنذار مُنع تزويدهم بالغاز بموجب البطاقات الذكية كما قالوا، ما ألحق أضراراً كبيرة بهذه الحرفة, وتسبب برفع تكاليف مستلزمات تصنيع القطع النحاسية المطلوبة من أهالي الريف وبعض المهن والصناعات كصناعة الحلويات، إضافة إلى الأبنية الدينية كالجوامع والكنائس، علماً أن هذا السوق كان يصدّر إلى الدول الخارجية، ولا يزال- وإن كان بكميات قليلة، إضافة إلى التوريد إلى المحافظات الأخرى، رغم الصعوبات والمشاكل المتزايدة.
شبه ميت
وعن هموم أهل هذه الحرفة يقول الحرفي يحيى نحاس: ورثت هذه الحرفة أباً عن جدّ لكن مصلحتنا تكاد تنقرض مع محاولتنا المستمرة المحافظة عليها، فاليوم أغلب المعلمين والشغيلة سافروا أو ماتوا ولم يبق سوى عدد قليل يعد على الأصابع.
ويضيف: كان هذا السوق قبل الحرب يضج بالحركة والإنتاج لكنه اليوم “شبه ميت” وخاصة مع انقطاع الكهرباء المستمر وعدم تزويد الحرفيين بالغاز بموجب البطاقات الذكية، حيث فجأة قطع مد الحرفيين بالغاز من دون ذكر الأسباب مع إنهم ملتزمون بتسديد الرسوم إلى اتحاد الحرفيين بموجب الحصول على الشهادة الحرفية، مشيراً إلى أنه اضطر كغيره من الحرفيين لشراء الغاز من السوق السوداء بأسعار مضاعفة مرهقة، ما تسبب في زيادة المعاناة وارتفاع التكاليف.
ويشكو كغيره من الحرفيين في السوق من عدم وجود إنارة في السوق “المعتم” على نحو يعرّض محلهم للسرقات من بعض ضعاف النفوس، مشيراً إلى مشكلة أخرى تعترض مهنة النحاسين تتمثل بنقص المواد الأولية وغلائها، فاليوم كيلو النحاس الصاغ يقارب 500 ألف ليرة.
في حين يعد الحرفي ذكريا من العائلة ذاتها أن أكبر مشكلة تواجه حرفيي النحاس هي فرض الأتاوات على أهالي الأرياف الذين يشترون الأواني النحاسية ويفضلونها عن أواني الألمنيوم التي تحتوي على مواد سامة، ما دفع الكثيرين إلى الإعراض عن الشراء وتخفيف الطلب.
ولحل هذه الإشكالية التي كان لها أثر سلبي على عمل الحرفيين الراكد أساساً يقول الحرفي زكريا: عمدنا إلى إعداد فواتير نظامية تبين نوعية السلع ومكان الشراء، وقد نضطر إلى مرافقة الزبائن من الريف منعاً لحصول أي إشكال”، مطالباً بتشميل حرفيي النحاس بالقروض التي أعلنت مؤخراً لكونها تسندهم، إضافة إلى تقديم الدعم اللازم لإحياء هذه الحرفة ومنع انقراضها أقله المساهمة بتأمين مستلزمات العمل الأساسي كالغاز والكهرباء.
تراجع العمل في مهنة النحاسين يؤكده الحرفي ذو الستين عاماً محمد حاج مصطفى، الذي أكد بلهجته الحلبية والضحكة ترتسم على وجهه: الشغل قليل جداً، وأنا أعمل حالياً حتى أتمكن من تأمين الطعام والشراب لا أكثر ولا أقل.
مع إن هذه المصلحة متعبة لكنها مهنتي التي أعمل بها منذ عقود ولا مقدرة لي على الشغل بمهنة أخرى” مشيراً إلى أن غلاء المستلزمات الأولية أثرت في هذه المصلحة، إضافة إلى عدم منح الحرفيين الغاز بالسعر المدعوم لأسباب غير معروفة، فاليوم الجرة الصناعية سعرها يقارب 150 ألفاً ولا تكفي أياماً قليلة لكون النحاس يحتاج ناراً حامية حتى يتمكن الحرفي من صنع القطع النحاسية اللازمة.
لن تموت .. قلة عدد الحرفيين “الصامدين” في مصلحة النحاسين وعدم وجود رغبة عند الشباب في تعلم هذه الحرفة ينذر الخطر بانقراضها إذا لم تتخذ إجراءات لدعمها وحمايتها وخاصة أنها من المهن التراثية العريقة، لكن رغم ذلك يرفض الحرفي يحيى القول إن حرفة النحاس في طريقها إلى الانقراض رغم كثرة المشاكل والظروف الصعبة التي أجبرت حرفيين كثراً على تركها، فيقول: مهنة
النحاس لن تموت وذلك يتحقق من خلال استمرار تعليم هذه الحرفة التي أنوي تعليمها إلى ابني، كما أتمنى أن يكون هناك شباب يرغبون في تعلم هذه المصلحة التي يعرضون عن العمل بها لكونها مهنة شاقة ومردودها قليل في هذه الأوقات”، مستذكراً سنوات ما قبل الحرب عندما كان يعمل في محله عدد لا بأس به من الشغيلة، حيث كان لا يهدأ المحل من الحركة والإنتاج.
يتفق معه الحرفي الحاج مصطفى بتأكيده أنه حرفة النحاس لن تموت أبداً وإن خفَّ الطلب وقلَّ عدد الحرفيين العاملين فيها، لكن الحرفي زكريا يخالفهما الرأي بتأكيده أن هذه الحرفة قد تنقرض إذا لم تدعم وتولى الاهتمام المطلوب، مشيراً إلى أنه لن يعلِّم أياً من أولاده هذه المهنة وإن كان ورثها عن أبيه وجده، فاليوم هناك صعوبات كثيرة تواجه الحرفيين، والإنتاج لا يكفي سوى للأكل والشرب فقط، إضافة إلى أنها مهنة متعبة وهناك الكثير من المهن يحقق فيها الأولاد طموحهم ويؤمّنون مصدر رزق لهم أفضل منها.
نقص الغاز السبب..؟!
إيقاف تزويد الحرفيين وتحديداً النحاسين بمادة الغاز الصناعي فجأة على نحو أثر في عمل العديد من الحرف والصناعات، حاولنا الاستفسار عنه من رئيس اتحاد الحرفيين في حلب محمد حسام الحلاق الذي أرجع السبب الرئيس إلى نقص المادة وقلة توريدها إلى حلب بكميات كافية، وبالتالي في حال توفير الغاز سيتم تزويد الحرفيين من الغاز الصناعي حسب مخصصاتهم.
ت-صهيب عمراية