شواغل

أواخر أيام القرن العشرين، ثمة ناقدٌ لفت نظره ميل القصيدة العربية المعاصرة، صوب الاهتمام بالتفاصيل اليومية، فيما يُشبه ردةً على «ميتافيزيقية» القصيدة السابقة، أو لتقديم مواضيع مختلفة، أو ما كان يُطلق عليه «أغراض القصيدة»، فصارت تحتفي هذه القصيدة بالمحسوس من الأشياء، وصارت القصيدة تستبعد الماورائيات، وكأن مشكلتها كانت في هذه الـ «ميتا» فاستبعدت الميتافيزيقيا، وحصر توجهها بالـ «الفيزيقيا» بكل حسيتها..!
نقول استبعدت لبعض الوقت، وليس دائماً، ومع ذلك خرج من أطلق شعار «الاحتفاء بالتفاصيل اليومية» وكان أن تشكّل لصاحب هذا القول معشر من «القوالين» يرددون طوال الوقت «الاحتفاء بالتفاصيل» حتى انسحب مثل هذا «الاحتفاء» من القصيدة، إلى العرض المسرحي، الفيلم السينمائي، وحتى اللوحة التشكيلية,, الجميع يريد، ويردد «الاحتفاء بالتفاصيل اليومية» الأمر الذي جعل أحد الشعراء – النقاد مؤخراً يردد حزناً وأسفاً: إنني أندم اليوم على المرات العديدة التي استخدمت فيها عبارة «هذا النص يحتفي باليومي» ويضيف: ماذا يعني نص يومي؟.. ثمة نصوص جميلة، ويُفترض أن تكون قراءتها مختلفة، ومن غير المعقول أن كلَّ «شاعر» يكتب عن «كراكيب» في المطبخ، أو عن «حفاية» حبيبته أو عن حبل الغسيل تحديداً! فمن غير المعقول أن كل هذه «الأغراض» توضع في سلة واحدة اسمها “الاحتفاء باليومي”.
ذات مرة يذكر القاص السوري زكريا تامر: كنت أكتب قصصاً فيها عالم الحياة اليومية، و فيها عالم متخيل، وفيما بعد بدأت كتابة نوع من القصص انمحت فيها الحدود بين عالم الواقع وعالم الخيال، واندمجا في عالمٍ واحد، وما لبثت قصص أخرى أن شهدت إلغاءً بين شتى العوالم؛ عالم الواقع، عالم الحلم، وعالم الموت، وإذا كنا لا نريد صور «فوتوكبي» عن إبداع زكريا تامر، لكن ليس معنى ذلك أن نبقى نتخبط بين كراكيب المطبخ، بحجة الاحتفاء بالتفاصيل اليومية.!!
أما عبارة «كسر التابو»، فلا أظن أن ثمة ناقداً في طول العالم العربي وعرضه، إلاّ وصرخ: وجدتها، ثم يطرّز موضوعاً طويلاً عريضاً عن «كسر التابو»، وإذا «تحركش» أحدٌ بالدين أو بـ «السلطة أي سلطة» يصبح بالضرورة كاسراً للتابو و.. وصل الأمر إنه إذا كسرت «حبيبة الشاعر» صحناً صينياً في غرفة النوم، فإن مثل هذا المشهد يُنسب إلى «كسر التابو» أو إلى الاحتفاء باليومي..!!
مع ذلك ورغم هذا «الاحتفاء اليومي بالكراكيب» أقول: إن القصيدة المعاصرة بشكلٍ عام، وتحديداً قصيدة النثر، «عجزت» وهنا أعده «عجزاً إبداعياً» أو العجز الأقرب إلى الإبداع، وهو إنها لم تستطع، أو تفلح – ربما ثمة محاولات – أن تقدّم أهم غرض من «أغراض» القصيدة التقليدية الموزونة، وهو «المديح» و.. ذلك بما أنها لا تستطيع أن تضع الممدوح، في سلة واحدة مع احتفائها بالتفاصيل اليومية، لأنها تكون بذلك قد كسرت يدها، مع كسر “التابو”..!!
هامش:

في
كلّ مدينةٍ
كان يعشقُ امرأةً؛
هكذا
كان الفتى “يغزو”، ويفتحُ المدنَ
من قلوبِها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار