الملاذ الأخير
لا يملُّ المُتعبون من الحرب.. المُتعبون من الموت.. من البحث عن الإبرة في كومة قش، أو التعلق بتلك القشة على هشاشتها، وإن كادت تقسمُ ظهر البعير.. يسألون الكاهن: متى ينتهي كل هذا يا أبتاه؟ فيجيبهم بصوتٍ خافت وبعيد: عندما تحبون بعضكم.. فيما دوستويفسكي يسأل ويُجيب: أتعرف ما هو الجحيم؟ هو ألا تستطيع أن تحب.. أما مواطنه تشيخوف فيذكر بما يُشبه اليقين إنه: مهما كانت الحياة قاسية فهي تحلو مع من نحب.. فإلى عوالم الحب، الألم، والوجد، حيث يقفُ الكائن في مواجهة هشاشته ورعب وجوده.. في الوقت الذي أصبح فيه الموت حديث الشارع، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى جدار لصق النعوات من جراء الأوبئة والحروب.. غير أنه دائماً كان ثمة من يفاجئنا في كل مكان ويطالعنا مع الصباح بأنّ ثمة إمكانية للعيش، وذلك بما يُشبه ملاذاً أخيراً – ملاذ الحب، الذي تكمن صناعته التي هي مُضادة لصناعة الموت.. كأن يصرّ مبدعٌ ما على تقديم أغانٍ تُعيد إلى الذاكرة ذلك الحب الذي نفتقده اليوم، ليس لأن زمن العولمة أراد أن يخرجه من عباءته القديمة، ويغير من ملامحه، بل لأنه السلاح الوحيد والأمضى في مواجهة كل هذا الموت الفقد والخسارة.. وهنا دائماً يحضرني ما قاله الروائي الأفغاني عتيق رحيمي: “الرجال الذين لا يعرفون الحب، يمارسون القتل”.. وذلك من وحي تجربة الاقتتال الفظيعة في بلده أفغانستان، مؤكداً أنه لا خلاص من القتل والاقتتال إلا بالحب، وهو ما فعله عشرات المبدعين السوريين في دعواتهم لولائم الحب في زمن القحط والخراب.
قنوات الحب التي تحمي من آفة الحزن كثيرة، منها ما يقترحه الروائي ماريو فارغاس يوسيا الذي يرى “أن الكتابة أو الأدب هو الاختراع الأفضل للوقاية من التعاسة”. إذاً ثمة صناعة للحب، وفيما يُنسب إلى جلال الدين الرومي مثلاً: “دون حب كل الموسيقا ضجيج, وكل الرقص جنون”، فيما شخصية بقامة (بيتهوفن)، بأنه كان يحتقر من لا يحس بالموسيقا، فهي من وجهة نظره أنبل وحياً من الحكمة والفلسفة.. والحب بالتمتع بالمشاهد من حولك، كلها قنوات للحب، لكن بشرط إعادة تأهيل النفوس و(فرمتتها) لإزالة كل فيروسات الكره والحسد والضغينة والتطرف العالقة فيها، ومن ثمّ فتح قنوات نظيفة لسواقي الحب.
هامش:
عندما يصيرُ الحبُّ
أوراقاً مبعثرة
تصيرُ الكراهيةٌ
مداميك
في معارك الريح.