قصص وحكايات من مراكز الإيواء في الحسكة (١) .. عندما تعبت من دفع كرسيه أثناء النزوح لم تجد أفضل من كتف والدها تسند رأسها عليه
في جلسة صفا مع الذات، ونحن نستعرض شريط الصور للأسر النازحة من الأحياء الجنوبية في مدينة الحسكة إلى وسط المدينة إبان الاشتباكات الأخيرة في محيط سجن الثانوية الصناعية، استوقفتنا بعض الصور، ولم نستطع تجاوزها إلا بعد معرفة كل تفاصيلها، لأن كل صورة من تلك الصور تروي قصة وحكاية.
كصورة هذه الشابة وهي تدفع كرسي الإعاقة الذي يجلس والدها فيه في منطقة بين الجسرين، أو المنطقة الفاصلة بين حي غويران ووسط المدينة.
وعندما تعبت هذه الفتاة من دفع الكرسي بيديها الغضتين بسبب ثقل جسم والدها، لم تجد مكاناً أفضل من كتف والدها تسند رأسها عليه.. وفي هذه البرهة كان الإصبع يضغط على الزر ملتقطاً هذه الصورة.
ورغم أن الاستناد لم يدم سوى لحظات، إلا أننا فوجئنا بهذه الشابة تعاود دفع كرسي والدها بمنتهى السهولة، وكأن هذه الثواني اللاتي بالكاد شَمّت فيها رائحة والدها منحتها عنفوان عمر بأكمله.
ولأننا نريد معرفة القصة بكاملها، انطلقنا نبحث عن بطلتنا في مراكز الإيواء السبعة، ولم نكد ندخل باب مركز مدرسة الشهيد وليد نوفل حتى وجدناها في باحة المركز تقف بجوار والدها كأنها تحكي له حكاية تسليه وتبعد عن رأسه التفكير بهموم الحياة، إذ يكفيه هَمُّه وقد نال نصيبه منها، لكنها لم تنتصر عليه فمازالت إرادته هي الأقوى.
اقتربنا منها وألقينا التحية:
*مرحباً، أنا الصحفي خليل من صحيفة “تشرين”.
أهلاً وسهلاً.. رنا.. بماذا أستطيع أن أخدمك سيد خليل.
وما إن وضعت الصورة أمامها حتى قالت وهي تبتسم: هذه صورتنا أنا ووالدي بين الجسرين ونحن نعبر نحو الملاذ الآمن والحضن الدافئ حضن الدولة.
أدركتُ حينها أنني أمام فتاة ذكية ومثقفة، وعلي التعامل معها على هذا الأساس؛ سألتها بشكل مباشر: من أنتِ.؟ فجاءني جوابها أيضاً بشكل مباشر: أنا فتاة مثل كل فتيات هذا الوطن، دعكتهن المحنة حتى صارت كل واحدة منهن بمئة رجل.
نظرت إلي فأدرَكَت بذكائها غير العادي أنني أريدها أن تسترسل، فتابعت: كما قلت لك اسمي رنا أعمل بالتدريس، وأتابع دراسة الماجستير في التربية، والدتي توفيت، وإخوتي كل منهم غاطس بهموم الحياة من رأسه حتى أخمص قدميه، ولم يبقَ سواي لرعاية والدي المقعد، وهذا مصدر سعادتي، وهمي الوحيد ألا أرى تعباً أو أذى في وجه أبي، وأرجو من الله ألا يجعل في قلب أبي مثقال ذرة من حزن.
*لماذا؟
لأنه ببساطة من انتظرني تسعة أشهر واستقبلني بفرحة، ورباني على حسابه وحساب صحته، فسهر الليالي يفكر ويدبر، ولأنه الرجل الوحيد الذي لم يكسرني ولم يخذلني يوماً أبداً، هو الذي سيبقى أعظم حب في قلبي للأبد، عذراً منك سيد خليل ولجميع الرجال، فلا أحد يشبه أبي.
“ما بي حب يضاهي حبي لعيون أبي وهو مبسوط، يارب هالعيون الحلوين وصاحبها تدوم إلي العمر كلو، أبوي يا نعيم المترفين، يا حلو الملامح، يالوجه السموح، يا عمري اللي راح واللي بقى، أبوي يا أصل الحنية، يا أصل الطمأنينة، يا من إذا أطلب منو نجمتين يجيبلي السما بحالها”.
*بكل إعجاب أسألها: كم تحبين أباكِ إذاً؟
ترد وهي ترفع رأسها نحو السماء: حبي لأبي بحجم سمائنا هذه وأضعافها تسعاً وتسعين مرة.
*آنسة رنا من أين لكِ كل هذا الحب؟
السلام على قلب أبي الذي علمني الحب، أحببته أكثر من كل شيء، به الحياة وله الحياة، فبعض القلوب لا يمكن أن تتكرر أبداً كقلب أبي.. لو تعلم سيد خليل كم من الفخر ينتابني حين يقترن اسمي باسم أبي.
*في اللحظة التي التقطت هذه الصورة كنتِ تسندين رأسكِ إلى ظهر أبيكِ؛ لماذا؟
شيء طبيعي، فأبي بطلي الوحيد واستقامة ظهري، هو بالنسبة لي أمن لا يشبهه خوف، وسند لا يميل ولا يهتز، ورجل عن كل الرجال، هو سندي، وجناحاي في الحياة، هو ضوء عيني حين يخذلني الآخرون، وليس باستطاعة أحد أن يملأ هذا المنصب العظيم مهما حاول.
ثم تابعت وهي تنظر إلي كأنها تعطيني درساً: هل تعلم سيد خليل أن الأب هو الأمان بالنسبة للفتاة. وهذا الإحساس كامن في تركيبتها الجينية منذ ولادتها، لذا عندما تكون علاقة الفتاة بأبيها قوية ستشعر بالثقة بالنفس والرضا والأمان والحب بمستوى أعلى، وكلما كانت العلاقة بينهما قوية زاد احتمال أن ينتقل ذلك إلى زوجها في المستقبل.
*رغم أنكِ تبدين قوية، أسأل: هل ثمة ما تخافين منه؟
أجل إني أخاف الحياة من دون أبي، فالأب رجل لا يتكرر في حياة الفتاة، ولا يملأ مكانه أي أحد، لا أخ ولا زوج ولا حتى الولد، الأب معطف أمان في ليالي العمر الباردة، وخاصة أبي، فهو مملوء بالطيبة حتى أنك عندما تحدثه ترى قلبه في عينيه الجميلتين.
* كأنها أرادت بجملتها الأخيرة أن تلفت نظرنا إلى أبيها، بعد التحية سألناه إن كان يريد أن يقول شيئاً، فقال: لا أجد أجمل مما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم : فإن ابنتي بضعة مني يريبني مآربها، ويؤذيني ما آذاها.
وبهذه الجملة التي تعد أجمل مقولة أبوية ودعنا رنا وأبيها، ونحن مقتنعون بأننا إذا أردنا أن نتكلم عن عمق الحب، ما علينا إلا النظر إلى مكان الأب في عيني ابنته، لكننا مهما تكلمنا عن الحب يبقى حب الأب هو الأطهر والأصدق.