أيمن زيدان.. «سأصير مُمثلاً» بـ«أوجاع» «ليلة رمادية» و«تفاصيل» وجوه!

من يقرأ مجموعات «أيمن زيدان» القصصية «ليلة رمادية، أوجاع، وجوه» ونثرياته في «تفاصيل»، وكتابه «سأصير ممثلاً»، سيتلمس أنها جميعها ليست استراحة مُحارب من فنون الدراما تمثيلاً وإخراجاً، ولا سعياً وراء مساحات تعبيرية جديدة، بقدر ما هي مواجهة مستمرة مع الذات والذاكرة العابقة بالتفاصيل، والزاخرة بالحنين، ومحاولةٌ لتوثيق ذلك بأدوات مُركَّبة، تجمع بين عين المخرج ورؤيته الخاصة للأشياء والأشخاص من حوله، ورهافة الممثل في اختزان المشاعر والانفعالات تجاه الأحداث المحيطة، إلى جانب حساسية الأديب في بناء معماره القصصي وتوليف سرديات حنينه، بما يشبه العودة إلى جوّانيّات مُتَّقدة، ودحرجة حجر الزمن السيزيفي إلى قمة جبل الحياة، ليعود فيكرُج مُفعماً بالمرارة والخيبة والخذلان.
“ليلة رمادية” المجموعة التي أهداها «زيدان» إلى أمِّه «ريحانة العُمر» كما يصفها، تتضمن الكثير من أسئلة المصير، وتهويمات لمآلات الحزن والتوجُّس الكثيف، مع نفحة واضحة لمواربة الأسى بطريقة شعرية، ورموز تستقي شرعيتها من التطابق الصارم بين أمس المدينة وحاضرها النازف.
“أوجاع” أيمن زيدان، تتكثف من جديد في مجموعته الثانية، التي كما قال عنها إنه يداري حزنه فيها ويختبئ وراء وهم التفاؤل لكنه يفشل، لاسيما بعد أن غطَّى شوارع دمشق «وحل الخنادق» حسب تعبيره، وضاعت البيوت وتهدَّمت الأحلام وانكسرت أراجيح الطفولة واحترقت الذكريات، لدرجة بات الماضي بأفراحه المديدة ملجأً موارباً لمداراة خيبات الروح، وإزالة أكبر قدر من المرارة، والوجع المستوطن في حنايا الذات، الذي يُصيِّر الحياة برمَّتها قطعاً متناثرة من ذكريات ويأس، لا تنفع معها تمائم الرجاء مهما تجذَّرت في الوجدان.
هذا الرصيد من المُشاهدات، التي صاغها «زيدان» بأكبر قدر ممكن من الشفافية والحساسية تجاه المُعيش، وإعادة صياغته وفق عمارة سردية بسيطة لكنها متقنة، استطاع أن ينحو به إلى نوع آخر من التَّذكُّر، والنَّبش في أعماق الذات في كتابه «تفاصيل»، إذ يلجأ إلى حياته وتاريخه الشخصي، ليدوِّن الكثير من المحطات التي مرَّ بها منذ ولادته العسيرة في غرفة طينية ضمن بيت بسيط في منطقة الرحيبة بالقلمون عام 1956، ثم طفولته في حي «النَّقَّاش» الدمشقي وأولى تجارب الجسد الطفولية، وزياراته الأسبوعية بباص «أبو إلياس» لمسقط رأسه، وحكايات جدِّه لأمه «زَعَلْ» المليئة بالصور والأصوات، ثم استغراقه في حلمه الفني المبكر بتهور الشباب وطيشه الذي كاد يودي بتحصيله العلمي لولا قرار أهله بمتابعة دراسته في القرية تحت إشراف جدِّه لأبيه «شكري» الذي يعتبر العِلْمَ خطاً أحمر، وكيف عاوده شيطان التمثيل وقدَّم أولى مسرحياته مع فرقة المدرسة بعنوان «بصلة في المخفر»، ثم أصبح مُلقِّناً في فرقة احترافية بعمر الخمسة عشر عاماً، وبعدها عضواً ومُدرِّباً في فرقة المسرح الحر، حيث التقى «كارمن» وظل أسير ابتسامتها، حتى أعلن حبه له، وبادلته المشاعر، وكاد تحرُّش أحد الشُّبان بها ودفاعه «زيدان» عنها يودي بحياته، لولا أن دافع عنه شهمٌ حلبي وقفَ بسيفه في وجه عشرة شبان مدججين بالأسلحة البيضاء، كما تضمن «تفاصيل» ذكرى أولى محاولاته لتمويل المسرح التي كادت تنتهي نهاية دراماتيكية لولا مساندة القدر له، وغير ذلك من التفاصيل الحياتية الجميلة. وبمزيد من النَّبش في الماضي، وما تختزنه الذاكرة من ملامح تكتسي بالنُّبلِ تارةً، والصُّوفية مرَّات أخرى، وبجزيل المحبّة في كلّ مرة، يُصوِّر زيدان في كتابه «وجوه» ذلك كله، كأنه يرسم «كروكيّات» لشخصيات درامية، قادرة ببساطة على أن تتحول إلى لحم ودم لكثافة وجدانياتها وصفاء وجودها الانفعالي في روح مُصوِّرها، كأن ما سَها عنه «زيدان» في كتبه الماضية تداركه من خلال تلك الوجوه، فلم يفلت منه بائع الفلافل «أبو سهيل» الذي “يعرف اقتناص الفرح من براثن الفقر السافل”، ولا «أبو يوسف» المغترب النبيل في الكويت عشرين عاماً، وكيف عاد شبابه بمشاهدته عائلته، ثم توقف قلبه بعد يومين، ولم ينسَ «فهد» ذاك المتماهي مع حزنه، والمنعزل عن العالم في زاوية دكانه الصغير، يشرب المتة ويستمع طوال الوقت إلى «فريد الأطرش»، وأيضاً ذكرياته عن الانتقالات المريرة من منزل في حي الجناين إلى آخر في جرمانا، وصعوبات نقل مكتبته، إلى جانب رصده لوجوه المتعبين، من موظفين وجنود وباعة متجولين، وكلها تشي بوجه البلاد الذي شوَّهته الحرب وما زالت، لدرجة أن «زيدان» كتب “كم أفتقد الآن ذاك الزمن الذي كان تواقاً للحياة.. زمنٌ يحتفظون به بكل المواقف النبيلة ويصرون على رد النبل بنبلٍ أكبر منه”.

أما كتابه الأخير «سأصير ممثلاً» فهو خلطة سحرية بين المذكرات وتأريخه الشخصي للحركة الفنية والمسرحية في سوريا، يعيد من خلالها توثيق لحظات من حياته كانت عابقة بالحلم والحماسة، ورسم دروب وأمكنة حفرت في وجدانه آثاراً عميقة، وعنه يقول «زيدان»: «يختزل هذا الكتاب لحظات من حلم وهوس خَلْق عندي، ومراحل تطوره، وصولاً إلى بدايات المرحلة الاحترافية، ولم أكتب الكتاب رغبةً مني بأن أؤرخ للحركة الفنية، بل أردت أن أحكي عن هذا الحلم كيف وُجد وكبر ونما، وما التحديات التي واجهها، متناولاً محطات خاصة في حياتي لا يعرفها الكثيرون».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار