الاقتصاد الذكي وحروب الزمن القادم
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين ظهرت مصطلحات الاقتصاد الرقمي، والاقتصاد القائم على المعرفة، وأخيراً الاقتصاد الذكي، وكلها مصطلحات تربط بين الاقتصاد والثورة الرقمية، بشكل يجعل الاستخدام الذكي للمعرفة الأساس للتقدم الاقتصادي.
لو حاولنا وضع تعريف مبسط للاقتصاد الذكي، لقلنا إنه ذلك الاقتصاد الذي يعتمد على قدرة الأفراد على الابتكار بشكل تشاركي داخل مجتمعات تقوم على قاعدة المعرفة، أفراد يعيشون في مجتمعات مدنية من نوع جديد، ويتميزون بالمرونة الشديدة والعمل التشاركي إلى جانب تعدد ثقافاتهم وقدرتهم على الاتصال بالشبكة المعلوماتية. هذه المدن الذكية تتصل ببعضها معتمدة على شبكة المعلومات وتعمل مجتمعة على تحسين الشروط الحياتية لسكانها من خلال تحديث البنية التحتية للمعلوماتية، والحفاظ على البيئة وتقليل استخدام وهدر الموارد الطبيعية، واستخدام وسائل المراقبة الحديثة من كاميرات وشرائح إلكترونية في كل مناحي الحياة لتسهيل وصول السكان إلى حاجاتهم بأسرع ما يمكن.
لن يستغرب أحدٌ أن تحتل مدن العالم الغربي ثمانية مواقع من أصل أكثر من عشر مدن ذكية في العالم، تلك القائمة التي تتصدرها العاصمة البريطانية لندن وتتذيلها العاصمة النمساوية فيينا، تضم أربع مدن أميركية، في حين تحتل العاصمة اليابانية طوكيو المركز الثالث، وسنغافورة المركز السابع.
يبدو كل شيء يتعلق بالعالم الذكي خلاباً، مسالماً، جنة على الأرض حلمت بها البشرية منذ فجر الحضارة. ما يغيب عن التعريفات الاقتصادية والأكاديمية أن تلك المدن الذكية المتصلة والمتشاركة مع بعضها تعني غياب الثقافات والهويات الوطنية لصالح الهوية العالمية الذكية، وأن التواصل بين «الأفراد الأذكياء» يحتاج لغة واحدة، ذكية، تمحو تدريجياً اللغات المحلية وما تحمله من تاريخ وثقافات الشعوب المختلفة. قد يُسمح للأفراد بممارسة طقوسهم الدينية والاجتماعية حسب ثقافاتهم البائدة، لكن لغة وثقافة وهوية الحياة اليومية والاقتصاد والعلم ستكون موحدة.
هل سيقبل العالم هذه التغييرات الجذرية على بنيته ونظامه، أم إن الأمر سيحتاج حرباً تدمر ما هو قائم لصالح الجديد القادم؟.. حرباً عالمية ثالثة تعيد تشكيل العالم كما فعلت الحربان العالميتان الأولى والثانية.
في السباق نحو العالم الذكي، تظهر أسماء دول صغرى مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، ونيجيريا، والإمارات، تقف في مواجهة دول عملاقة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والصين؛ هذه الدول الصغيرة لا قبل لها بالحرب ، بل هي بالكاد تملك جيوشاً إذا ما قورنت بالدول الكبرى، ألا تخشى هذه الدول من أن تلجأ الدول القوية إلى محوها من خريطة العالم في سياق الصراع “الذكي” على المكاسب؟
عالم الأمس كان مقسوماً إلى شمال وجنوب، أغنياء وفقراء، مختارين ومنبوذين، أما عالم الغد فمقسوم إلى مدن ذكية، وأخرى لنسميها مجازاً «غبية». في العالم الذكي لا مكان للحروب التقليدية، فمفاهيم مثل الدولة والوطن ستفقد معناها وألقها، سوف يبقى الأفراد الأذكياء في مدنهم المحوطة بالأسوار والبوابات، حيث الجميع يعمل مع الجميع، والجميع يتفق مع الجميع، والجميع يتنافس مع الجميع. ستخاض الحروب من وراء شاشات الهواتف وأجهزة الكمبيوتر، فتنهار مدينة وتنهض أخرى بين ليلة وضحاها.
في نهاية القرن الماضي كانت شركة أبل الأميركية على شفير الإفلاس، اليوم تبلغ القيمة السوقية لهذه الشركة 3 تريليونات دولار، وهو ما يعادل حجم اقتصاد دولة عملاقة اقتصادياً مثل ألمانيا، ويتجاوز ضعف حجم أكبر عشرة اقتصاديات في أفريقيا. علماً بأن التريليون الأخير من قيمة الشركة تحقق خلال السنتين الأخيرتين (2020 و2021) أي سنوات وباء كورونا، أي عندما حُشر العالم داخل غرف مغلقة، ولم يجد وسيلة للتواصل سوى أجهزة الهاتف والكمبيوتر.
لن تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً على الصين، لأن تدمير الاقتصاد الصيني يعني حرمان المصانع الأميركية من الرقائق والموصلات والتقنيات الحديثة، فتتعطل دورة الإنتاج الصناعي ويفقد ملايين العمال وظائفهم. كما يعني حرمان المواطن الأميركي من البضائع الرخيصة الثمن التي تؤمن دورة المال في سوق البضائع القصيرة والمتوسطة الأجل.
ولن تشن الصين حرباً على الولايات المتحدة، لأن تدمير الاقتصاد الأميركي يعني فقدان الزبائن والمستهلكين الذي يدفعون ثمن البضائع الصينية، وهذا يعني حرمان الصين من المصدر الأساسي لدخلها، وتدمير اقتصادها المعتمد بشكل رئيس على التصدير، فتتكدس البضائع في المستودعات، وتتوقف المصانع عن الإنتاج، ويصبح ملايين الصينيين من دون عمل. بين المدن الذكية ستخاض مناوشات، وقد تفرض عقوبات، لكن الحروب التقليدية ستترك للمدن الغبية.. ستكون هذه الحروب صغيرة، تُخاض بالوكالة عن المدن الذكية، حيث تُستهلك المنتجات والتقنيات التي صُنعت، لتُصنع بدائل لها أكثر تطوراً.
مع مرور الزمن يتربص المهزوم الفرصة ليشن حربه الثأرية ويستهلك المنتجات والتقنيات الجديدة، لتصنع المدن الذكية منتجات أكثر تطوراً… وهكذا، يدور الاقتصاد بين عالم ذكي يُنتج وآخر غبي يموت في سبيل استهلاك منتجات قاتليه.
هل وصلنا إلى نهاية التاريخ حيث ترتقي الرأسمالية إلى ما بعد الإمبريالية، أم إن الضحايا سيكونون أكثر ذكاء ويجدون طريقهم للوحدة في مواجهة الوحش الرأسمالي بشكله الذكي؟
كاتب من الأردن