عروس لـ”طلال معلا” ومأدبة في “ألف نون”!
عروس ومأدبة؛ بهاتين المفردتين، شكلّ طلال معلا تركيباً لغوياً ليطلقه على أحدث معارضه، والذي يُقيمه هذه الأيام في صالة (ألف نون) بدمشق.
لم يحضر طلال معلا افتتاح معرضه مؤخراً لنسأله عن سر التركيب اللغوي، فقد حال وجوده خارج البلاد من حضور افتتاح المعرض، وهو الأمر الذي ترك لنا نحن المُتلقين المجال واسعاً بعيداً عن “سطوة” الناقد- الفنان؛ هذان المجالان اللذان شكلا شواغل طلال معلا طول الوقت.
وكان لنا أن نفرد مخزونات المفردتين على إيقاع حواملها من الوجوه في مدى أكثر من ثلاثين لوحة تشكيلية، كل لوحةٍ- وجهٍ لها تنويعاتُها البحثية الفكرية وكذلك جمالياتها اللونية.
إذاً؛ ثمة (عروس)، وثمة (مأدبة)، فهل العروس هي المأدبة، أو الوليمة التي يدعو إليها طلال معلا؟ وإذاً ما (ماهية) هذه العروس، وما (ماهية) هذه المأدبة والحالُ كذلك؟ ثم هل حقاً ثمة (دعوة) لمأدبة، أم إن ذكرها– المأدبة؛ ما أوحى بالدعوة، طالما ثمة وليمة؟ إذاً هناك دعوة، لكن وبنفس الوقت أليس الأمرُ وارد أن يلتهم غرباء ما وأشرار الوليمة من دون أن يتركوا منها شيئاً؟
وإذا ما عُدنا لمفردة (العروس) والتي توحي بامرأة في ذروة جمالها وخصوبتها؛ إذاً فالوليمةُ عامرة، لكن لمن؟ وإذا ما جمعنا المُفردتين معاً (عروس ومأدبة) كما فعل معلّا، فإننا نكون جمعنا الكثير من الوفرة والجمال والكرم… غير أن العروس قد لا تكون دائماً امرأة، فكل ما هو جميل في حياتنا ونفرح به نطلق عليه (عروساً) من السيارة إلى الضيعة إلى المدينة، وإلى الوطن نفسه.
من هنا كثرة احتمالات انزياح (العروس) وغنى المفردة وخصوبتها، أما في مدونة (المأدبة) ميثولوجياً وتاريخياً؛ فإن تاريخ المآدب لم يكن ينتهي دائماً بالشبع، فكثيراً ما كانت الوليمة (مذبحة) أو تنتهي بمذبحة، وقلما خلت مأدبة من (يهوذا)!
كل تلك الحمولات للمفردتين، كانت شغل معلا ليس في معرضه الأحدث وحسب، بل في اشتغاله الطويل على تلك الوجوه التي لم تكن أكثر من حوامل فكرية وبحثية وجمالية لما يُريد أن يُقدمه في مشروعه وتجربته التشكيلية التي لها مساحتها المهمة اليوم في المشهد التشكيلي السوري سواء نقداً، أي شغله الذي يكاد يُشكّل نصف التجربة في النقد، أو في شغله بالتصوير.. وهو على مدى سنوات طويلة لم يُغيّر حوامله الفنية والفكرية إلا قليلاً في بعض اللوحات المشغولة بالأحبار على الجسد، ذلك أن شغله الأبرز كان في الوجوه، والتي كان له معها رحلة طويلة، يُمكن أن نقسمها إلى مرحلتين: الأولى: مرحلة التقشف اللوني، وهي مرحلة لأكثر من عشرة معارض أطلق عليها (الصمت)، ومن ثمّ مرحلة الغنى اللوني، أو ما أطلق عليه (ما بعد الصمت)، والأخيرة التي كانت منذ آخر معارضه في صالة “تجليات” بدمشق، عندما أخرج تلك الوجوه عن صمتها الطويل، وذلك بالكثير من الإشارات، والفنان في كل تنويعاته بالمرحلتين؛ كان يُقدّم إضافاته باللمح تماماً كالشعر الذي هو لمحٌ تكفي إشارته! ذلك أن الكثير من الملامح السابقة ستبقى مستمرة في أعماله الحالية، حتى موضوعة (العروس) نفسها؛ فقد نوّع عليها معلا في عشرات اللوحات.
وهو في كلّ هذه الحوامل، وفي المرحلتين معاً؛ وأنت تتأمل لوحات طلال معلا؛ ستجد إنه ما زال لديه متسع من الإبداع لإعادة المشهد كل مرة بتنويعات جديدة، لتقديم الصورة الإنسانية من وجهة نظر تشكيلية أقرب إلى «احتجاجية» التعبيريين التي سادت، ولا تزال سائدة منذ بداية القرن الماضي، وأنت تتأمل تلك الوجوه- اللوحات لابد سيتبادر إلى ذهنك العديد من الفنانين التشكيليين الذين أوقفوا شغلهم الفني على تناول الوجوه فقط، أو ما سمّاها معلا «الصورة الإنسانية» لكنه، وإن اشترك معهم في التناول الشكلي، أو الموضوع، وفي جهدهم في التعبير عن الصورة النفسية (الداخلية)، غير أنه سيختلف عنهم بهذه العيون الفارغة الأقرب إلى القناع التي بموضعها في أعلى الرأس كالقرنين-لاسيما في المرحلة الأولى- وهذا الأنف الثخين النازل من بينهما باتجاه شفاه ممتلئة، حتى أنك لتحتار، هل يرسم معلا وجوهاً أم أقنعة، غير أنّ ما يبدد هذه الحيرة، تلك الشفاه المكتنزة التي تُفتح بإغواء الكلام لكنه الإغواء الذي لا ينزُّ سوى بالصمت، تماماً كالعيون المطفأة، والفارغة التي لا ترى شيئاً!
وفي أعماله الحالية الدافقة بالألوان؛ فإنّ معلا جعل الكثير من ملامح الوجوه تقول الحكاية بكاملها وحتى خواتيمها.. هنا ثمة الكثير من القديسين، وهو ما أشار إليهم بتلك الهالات التي تُحيط برؤوسهم، فهناك شهداء، وهناك الكثير من نسخ ووجوه مُتعدد لـ(يهوذا)!
الأمر الأساسي في اختيار موضوع (الوجه)؛ لأنه، برأي معلا، لا يخذلك حين تتأمله، هو من الفصاحة والبلاغة بمكان رغم صمته، وأحياناً سكونه. الوجه المُفعم بالتفاصيل، هناك العين المغرمة بالكلام، الوجه/البوابة الذي تأخذ منه التعابير الداخلية لجسد ونفس تكتنزها، الوجه الذي يأتي كعنوان عريض لكامل الجسد، فهو أول من يقدم الصدمة والقبول، وهو الحامل للذاكرة الحميمية للشخص، مهما كان موقفك من هذا الشخص.
من هنا أيضاً ثمة وجه يحمل تاريخاً، وأنت تنحت كل ذلك، أو تصوّره لحالة إنسانية تعمل أنت لأجلها.
ت: صالح علوان