الموسيقا التصويرية حارسةُ ذكرياتِنا الدراميّة!
تعدّ الموسيقا التصويرية المنصّة السمعية الأولى التي يتكئ عليها صناع العمل الدرامي لخلق بيئة فنية متكاملة تُوصِل محتواها بدقة واحترافية إلى المتلقي، وتُبنى بتأنٍ وحنكةٍ شديدين بالتنسيق بين مخرج العمل والمؤلف الموسيقي.
كما تلعب الموسيقا التصويرية دور حارس الذكرى، فكثير من الأعمال الدرامية العربية والسورية بقيت موسيقاها عالقة في أذهاننا لنستعيد معها أحداث أعمال درامية خالدة، مثل موسيقا (المال والبنون) و(رأفت الهجان) عربياً، و(ضيعة ضايعة) و(عناية مشددة) و(الزير سالم) وغيرها محلياً.
«تشرين» التقت بعض مبدعي هذه المنصّة المهمة ليطلعونا على عملهم، فالمايسترو والمؤلف الموسيقي نزيه أسعد يرى أن التأليف الموسيقي يبنى على أساس النص الدارمي: «فكما يبني المخرج شخوص عمله على النص، كذلك المؤلف الموسيقي يرفع الموسيقا التصويرية للعمل على أساس النص الدرامي، حتى إن المؤلف المحترف يقرأ الحوار وليس فقط النص العام، ليتعرف إلى الحالة الفنيّة والتطور المتسلسل للشخوص الدرامية، كما يمكن أن يأخذ مشاهد متقطعة من المخرج ليرسم صورة واضحة لمؤلَفه الموسيقي، واطلاعه على المشهد بعد تصويره يساعده على الربط بين النص المقروء والمشهد المتكامل».
ويضيف أسعد: «نادراً ما نسمع عن موسيقا تصويرية تم تأليفها بمعزل عن النص، وبالاكتفاء بتوصيف المخرج للمشاهد الدرامية من دون قراءة المؤلف الموسيقي المسبقة للعمل، وهنا يتم الاتفاق بين المؤلف الموسيقي والمخرج للمواءمة بين المشهد والجمل الموسيقية، فمثلاً الإيقاع المتصاعد يناسب مشهد توتر، بينما العزف المنفرد على آلة الناي يناسب بشكل أكبر مشهداً حزيناً، وهذا التطبيق نادر الحدوث ولكنه يحصل في عالم صناعة الدراما، أما الحالة النموذجية فهي كما ذكرنا سابقاً وجوب قراءة النص الدرامي قبل البدء بالتأليف الموسيقي».
«تلبيس وتسكيج»!
عن تجربته الشخصية يقول أسعد: «شخصياً حين كنت أُكلف بأعمال موسيقية تصويرية تلفزيونية أو مسرحية أطلب النص والحوار، وأقرأه بتمعن ثم أختار مشاهد متقطعة وأقيس عليها ما يمكن أن تعطيني تلك المشاهد من إلهام وأفكار لكتابة الموسيقا التصويرية للعمل، ولو أنه تم وصفها لي شفهياً من دون قراءة لتمكّنت من تطبيق رؤيتي عليها، ولكن هنا قد يحصل نوع من «الفوضى الموسيقية»، حيث تكثر الخيارات، إذ يمكن أن أقدم لهم موسيقا مدتها 45 دقيقة، يمكن أن يختاروا جزءاً معيناً لمشهد تمثيلي معين، يتكرر في كل ما يشابهه، فتبدو العملية أشبه بالـ«تلبيس» أو«التسكيج» كما نقول باللهجة المحكية، وهو ما لا يجوز فنياً، فكل مشهد له خصوصيته، وكل حالة درامية لها موسيقاها التي تستخرج من روحها وتبث فيها الحياة».
أسعد يرى أن «الموسيقا التصويرية تربط بين ما يحدث درامياً بالنسبة للمسلسل أو المسرحية أو الفيلم وما يؤلف ويسمع موسيقياً ويكون مناسباً للحدث الحاضر في المشهد التمثيلي، بتناغم وتوازٍ مع محتوى العمل الدرامي، وقد تحكي الموسيقا كل التفاصيل في مشاهد صامتة من دون كلام عبر انفعالات معينة لتعابير وجه الممثل، حيث تساعده الموسيقا التصويرية في توصيف الحالة الدرامية الراغب بإيصالها للمشاهد، هذا بالنسبة للمشاهد الداخلية في العمل، وفي هذا السياق هناك العديد من الاحتمالات التي تثبت أهمية الموسيقا التصويرية برفع مستوى العمل من خلال الحدث الدرامي، فالموسيقا التي ترافق «ذروة العمل» هي خلاصة العنوان والعمل، وفي «التهابط» إذا كان هناك الحد الأدنى من التمثيل والأداء! بمعنى إن أبسط مشهد أو حالة فنية في العمل يمكن للموسيقا أن ترافقها وتمدّها بالدعم المطلوب ما يرفع مستوى المشهد ليصل به المخرج إلى حيث يريد».
أما بالنسبة لموسيقا الشارات فيرى قائد أوركسترا الموسيقا الشرقية أنها «تلعب دوراً رئيساً في فهم وتلخيص أحداث العمل الدرامي، إذ من الممكن من خلال وجود مشاهد متقطعة مع موسيقا الشارة أو النهاية يمكن تجسيد دلالات واضحة على مغزى العمل، والخلاصة أو الرسالة التي يريد المخرج إيصالها».
الموسيقا المجردة مرفوضة درامياً!
الموسيقار طاهر مامللي شاركنا رؤيته لهذا العنصر الفعال في رفع مستوى العمل الدرامي وتحقيق الغاية المشهديّة لرؤى العمل، إذ يقول: «الدور الحقيقي للموسيقا التصويرية هو خلق سيناريو سمعي مرافق للمشهد البصري لإيصال الحالة الحسيّة للمتلقي من ناحية ورفع الحالة الدرامية وإيقاع العمل الدرامي من ناحية أخرى».
وهنا يؤكد مؤلف موسيقا «التغريبة الفلسطينية» طاهر مامللي أن: «الموسيقا التصويرية تخدم الحالة الدرامية بالتوازي مع بقية عناصر العمل»، مُعتبراً أن الموسيقا المجردة مرفوضة درامياً «فالمُحاكاة تكون في كل المشهد الذي يتكوّن بدوره من مجموعة من العناصر؛ ضوء، ديكور، ملابس، ماكياج وممثل، وبمقدار تحقّق حالة عالية من الإبداع في كل هذه العناصر مجتمعة ستكون حال الموسيقا متكاملة معها».
وفيما يخص البناء التكويني للموسيقا التصويرية التي تميز العمل الدرامي يرى مامللي أن «النص هو الأساس حيث من خلاله يمكن تحديد الأسلوب والشكل الموسيقي للعمل والفترة الزمنية للعمل تحدد نوع الآلات الموسيقية».
الشارة تكثيف للعمل بدقيقة واحدة!
الموسيقار عدنان فتح الله يرى بدوره أن الموسيقا التصويرية «وجدت لتكون عاملاً مساعداً لإيصال الفكرة أو الأحساس أو الإيحاء من المشهد التمثيلي، ومنه فإنه يجب أن تسير في تأثيرها بالتوازي مع تأثير الحالة التمثيلية للمشهد وتغيراتها»، مؤكداً أن «نجاح العمل الدرامي بالمجمل هو الذي يكتب النجاح لموسيقاه التصويرية وذلك تأكيداً لما قلته سابقاً بأن الموسيقا عامل مساعد لنجاح المشهد التمثيلي».
وفيما يخص آلية بناء المقطوعة الموسيقية الخاصة بكل مشهد يُجيب قائد الأوركسترا الوطنية للموسيقا السورية فتح الله : «يجب على الموسيقي قراءة النص والتدقيق في تفاصيله ليقوم هو بدوره برسم المخطط العام للموسيقا ودراسة كيفية التعبير من خلال موسيقاه عن شخوص المسلسل، ولا يمكن هنا أن نغفل أهمية الشارة فهي المقدمة التي تُختصر بها كل أحداث المسلسل بدقيقة واحدة، وهنا تكمن براعة الموسيقي في فهم النص بشكل جيد».