في حبِّ البعيد

موجود في تفاصيل الحياة على اتساعها وتعددها، لكنه ليس في لبّها الواقعي الذي يبتذل هذه التفاصيل في شبه صدامات ومماحكات يومية أبعد ما تكون عن شاعرية الوصف التي يحظى بها الحب والتعلق بين الثنائيات الإنسانية!
-حبيبي على الدنيا إذا غبتَ وحشة، فيا قمراً قل لي متى أنت طالع؟.
-يا غصن نقا مكللاً بالذهب، أفديكَ من الردى بأمي وأبي.
يجري نسيمُ مثل هذين «البعيدين» بجوار نوافذ الروح من دون أن يدري، يهزّ الستائر المنسدلة ويقتحم «الغرف» المغلقة فيبدّل مساحاتها ويغيّر أمكنة أثاثها، بل ألوانَ قطع هذا الأثاث وأشكالها، ويمحو الواقع من دون أن يزيله، فإذا كان الحزن على عزيزٍ رحل، حضر «البعيد» مواسياً وأخرج كلَّ ماء الحزن وملحِه من الأعماق، وإذا اجتاح الشوقُ القلبَ وضجَّ القلب به حضر «البعيد» لينسّق هذا الشوق في باقات مبللة بالعطر وحلق بأجنحة في فضاءات صافية غير مدركة! وكذا، هو الفرح والتعب والسّأم والملل واليأس والأمل والنّكْس والرجاء!
على ضفتين.. نعيش! نشتبك مع القريبين منا في صنع تفاصيل الحياة في كل ثانية، نعطي ونأخذ، نجادل ونستسلم، نخسر ونربح، نقترب ونبتعد، نغضب ونرضى، نتعب ونستريح، نشارك كل تفصيل حتى لو كنا متعبين ومستَنفَدين، لأن الحياة هكذا، لكنْ في الظلّ حياة أخرى مجاورة، نعيشها مع هؤلاء «البعيدين» خاصة حين نستدعيهم في لحظات عطش الروح إلى شيء ما، مفقودٍ في الواقع: لوحة تعبّر عن شجن مررنا به ولم نستطع رسمَه، قصيدة حكت عن لحظة تجلٍّ عابرة للأزمنة، أغنية بصوت متمكّن كأنه من ظواهر الكون الخارقة، فكرة مرّت في قصة أو رواية أنهضت الوعي الغائب في سباته، فإذ بهم أقرب من الأقرباء الذين لا مسافات بيننا وبينهم، إذا تعبوا تلهّفنا عليهم، وإذا مرضوا سعينا إلى أسرَّتهم في المشافي ولو بمشاعرنا ورجائنا بشفائهم، وإذا رحلوا بكيناهم من دون أن يعلموا كم كانوا قريبين ومؤثرين في حياتنا!.
هذا «البعيد» يشبه مطر الغيوم التي تعبر فوق الحدائق فلا ترى منها الأسيجة والأسوار، بل الشجر والأحواض العطشى، وكم من منتظرٍ على النواصي وتحت السقوف لمثل هذا العبور يغسل الغبار والقلق وضغوط القريب الذي قد لا يحفل إلا بنفسه واحتياجاتها! القريب الذي لا يمكن أن نحيا، أو يحيا إلا معاً ضمن شرنقة واحدة، وهي عصيّة على التمزيق إلا بيد «البعيد» الذي يأتينا على مراكب الفن وإشراقاته تخترق رتابة الزمن ومفاعيله القاسية!
مدينةٌ للبعيد كما القريب، لأنه لا يبخل عليّ بكلّ هذا الفيض من القرب، لتكون الحياة أجمل وأكثر بهاءً وجدارةً بأن تعاش!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار