النص الناقص

لعلّ أكثر ما يُبرر به أصحاب من يكتبون النصوص الوجيزة؛ «الألغاز» التي على القارئ تفسيرها بهذه النصوص، ولاسيما فيما يُكتب من «القصة القصيرة جداً»؛ إنه على الكاتب ألا يقول كل ما لديه في مثل نصوص كهذه، وإنما عليه أن يترك مساحة ما للمتلقي ليُكمل من خلالها ذلك النص العتيد، ويكون من ثمّ (شريكاً) للكاتب في تأليف النص..
هذه (الوصية) أوقعت مئات النصوص في الالتباس لدرجة الطلاسم وليس الألغاز وحسب، وأخرجتها من جنسها كقصص قصيرة جداً.. وبتقديري هذه الوصية المُربكة جاءت – ربما– من فهم لبعض المقولات القديمة لمنظّرين ونقّاد سبق أن تحدثوا عن مثل هذه (الشراكة) بين الكاتب والمتلقي، وربما يكون الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو؛ أقدم من تحدث عن النص المفتوح؛ ويبدو أنه منذ ذلك الحين، حدث التباس الكتابة المفتوحة، وذلك كشكلٍ ناقصٍ وغير نهائي .. أي خاضعٍ للتأويل بحسب تعبير (إيكو)، وبين الكتابة المفتوحة كما عبرت عنها تنظيرات وإنجازات جماعة الرواية الجديدة في فرنسا ولاسيما جماعة (غرييه, سولرز)، وهي التي حاولت أن تكسر الفوارق أو إلغاءها بين النثر والشعر، أو استبدالها بـ«الكتابة» فقط، أو بين الأنواع الأدبية وغير الأدبية ببديل هو (النص المفتوح) رديفاً لهذه الكتابة أو مُلتبساً بها.
ومن ضمن ما تعمّق فيه (إيكو)؛ كان اقتراح فضاء للنص مُتعدد الاتجاهات، حيث يكتسب هذا النص أكثر فأكثر خصباً يسقطه أو يمليه عليه الآخر: المتذوق, أو المُتقبل, أو المُتلقي بشكلٍ عام (طبعاً الأمر هذا يطول إلى الفنون الأخرى عموماً كالموسيقا والسينما أو الرسم وحتى الرقص).. في هذه الكتابة المفتوحة يبدو النص كالآخر المجهول بلا حدود, ويبدو في القصيدة الناقصة, وفي العمل الموسيقي الناقص, والرواية الناقصة، أي يبدو إشارة أولية يتحرك نحوها القارئ من دينامكية يتضمنها النص نفسه، وتُبقي الحوار مفتوحاً مع الآخر, إنه النص اللانهائي غير المكتمل، وغير الناجز, وغير المُقنن.. وإذا أردنا أن نعود إلى بعض العبارات التي استعملت انطلاقاً من نقد بعض القصائد الشعرية.. حيث استعمل مُصطلح ما يسمى بـ«نص البياض» أو «قصيدة الصمت »، وهنا لا بدّ من توضيح بسيط لكلمات مثل البياض، أو الصمت التي ارتبطت بالنص المفتوح الذي أشار إليه (إيكو).. لقد فهم البعض إنّ البياض يقتصر على استعمال فراغات في الصفحة, أو في ترتيب الكلمات أو الأحرف أو الأسطر… الخ، أي فهموا البياض كدورٍ زُخرفي كما يحدث في القصائد البصرية، أو في اللوحات التشكيلية .. لكن مفهوم البياض هنا؛ هو ذلك النقطة أو المساحة أو الفضاء التي يُخلفها النص المفتوح في القارئ .. وهذا النص قد يكون مرصوصاً بالكلمات كنصوص رامبو أو فاليري أو أنسي الحاج أو أدونيس… بمعنى أكثر تحديداً؛ البياض هو المساحة الشاغرة التي توحي بها القصيدة، والتي يُحاول القارئ من تلقاء ذاته أن يملأها أو أن يكمل هو القصيدة, أو الباب الذي يدخل منه إليها.. بهذا المعنى تتوازى كلمتا البياض, والصمت, باعتبار أن هذه المسافة البيضاء بكر وصامتة.. يبدأ فيها كلامُ الآخر, أي من النص المفتوح نفسه، وفي هذا المجال تُطرح فيما تُطرح مسائل أساسية في هذا النوع من الكتابة كالغموض, والكثافة, والاختزال, والتراكم، و.. غيره.
إضاءة:
في أمكنةٍ
لا تملّ الريحُ الصفيرَ فيها؛
عبثاً كان يفتشُ عن أبوابٍ
يسدّها ليستريح..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار