فجوة أم صدع؟

حين كنتُ أقف على عتبة مكتبة، سائلةً عن رواية جديدة، ويشير عاملُ البيع إلى أحد الأجنحة في عمق المكتبة، أبادره تلقائياً: الروايات المترجمة من فضلك! كانت القراءة قد تحولت عندي إلى «مهنة» بسبب البرنامج الإذاعي الأسبوعي «شخصيات روائية» الذي لم ينقطع إلا قليلاً منذ عام 1986! وعبر الروايات رأيت العالم بشكلٍ مختلف عن عجالات التأريخ وسُحرتُ بأمريكا اللاتينية بعد معرفة «أليخو كاربانتييه» وكل من خرج من «معطفه» من كتاب الواقعية السحرية وكتب باللغة الإسبانية! وتوغلت طويلاً بين أدباء روسيا وإفريقيا واليابان وما طرحته دُور النشر التي قادتني إلى الأدب الفرنسي والإنكليزي والصيني! وخارج العالم الروائي حسبتُ أن للإيديولوجيا عالماً منفصلاً تماماً، تتصارع فيه الأفكار والخلافات الحادة التي لا تعرف اللفّ والدوران والمجازات ونحتَ الشخصيّات، إلا أولئك الذين يقدمون «الفكرة» ويستميتون في الدفاع عنها، تأليفاً وشرحاً ودحضاً لمن يخالفها ولو كلّفهم ذلك عشرات المؤلفات في حقبة زمنية أعقبت ما يُسمى الثورة الصناعية: الرأسمالية والاشتراكية والطوباوية والليبرالية والنيوليبرالية.
اخترتُ السكّة التي مشى فيها الروائيون، وأكثرُهم شعراء بالفطرة، وتركت لهم إعادة صياغة العالم المضطرب والمصطرع بلا حدود، لأنني رأيت الروائي غزيرَ الوعي وكامل النقاء حين يعوم في لجّة الحدث، لا يأخذ تفاصيل الخراب البشع من الواقع كما يفعل المؤرخ حين يذكر عدد الضحايا والخسائر، رغم أنه لا يغفل ذلك ولا يزوّره، كما فعل «لويس أراغون» في «عيون إلزا» حين وصف سقوط الأندلس وبدا كشعرائها المجيدين الذين أشجوا الثقافة الإنسانية بأناشيدهم!
أقلتُ إن الروائيّ غزيرَ الوعي وكامل النقاء؟ بلى! إنه كذلك وأكثر لأنه يتخطى الواقع القصير الذي لا تكتمل أحداثه، ويجعل من هذا الواقع «رؤيا» تتخطى الأزمنة وتمزجها وتصوغ منها سبيكةً للخلود غيرَ قابلة للكسر، كحال ملحمة «جلجامش» و«الإلياذة» و«الأوديسة». ومعارفُ الروائي تفترض غير الإلمام باللغة والواقع المعيش، وتاريخ أمته الشفوي والمكتوب، والفرادة التي تبرر مكانته بين الأدباء تفترض حسّ العدالة الإنسانية ومحو الحدود بين عبدٍ يراه الربّ الرّأسمالي وسيلة إنتاج، وبين مقاومٍ يحمل السلاح في وجه محتل، وكلاهما مقهور ومظلوم وفي عنقه قيدٌ يدميه ويذلّ كرامته!.

كانت صدمة لي حطّمت عالم الروائيين الكريستالي أن أطالع أديباً أرجنتينياً قيل فيه إنه من أهم كتّاب القرن العشرين، ويسحرني أسلوبه وتأملاته الكونية الفذة، ومع ذلك يقف داعماً للكيان الصهيوني! كيف تناغم بفكره مع كيان اقتلع شعباً من أرضه وارتكب الفظائع التي ليس أقلَّها الإبادة! كيف تقوّض بنيانه المعرفي، الإنساني، الأخلاقي، وهو قارئ «ألف ليلة وليلة» وتاريخ المعتصم ومقولات الإسلام عن الموت والحياة، ليفاجئنا بثقة بأن حرف «الألف» هو أول حروف اللغة العبرية ومبتدأ كل شيء في «الإبداع» وليست أبجدية «أوغاريت» وأنه معجبٌ بواحة ديمقراطية بقلب صحراء؟
سيبقى السؤال حائراً، عن «خورخي لويس بورخيس» هذا، وغيره كثيرون، ما السرُّ في هذه السقطات؟ فجوةٌ في الوعي، أم صدع سببه مخبوء في باطن الأرض أو خفايا النفس؟.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار