لفتني منذ فترة مرأى شاب وصبية بشعر طويل مسترسل يتمشيان ، وكل منهما يلبس ملابس مصنوعة من أكياس القنّب، أو كما يسميها البعض «الخيش» أو «الجنفيص»، والحقيقة أنها جاذبة للنظر وفريدة من حيث تصميمها، لدرجة كدت أقترب وأسألهما عن الخياط الماهر الذي أبدعها، ومن صاحب هذه الفكرة الجميلة، ولأنني خشيت أن أُعكِّر صفو لحظتهما، تركتهما لجمالهما ومضيت، لكن صورتهما ظلّت عالقة بذهني فكأنهما كائنان من العصور البدائية، حيث لا تفكير بالموضة ولا صرعات الأزياء ولا تباهٍ بنوع القماش، المهم أن زِيَّهما يؤدي وظيفته على أكمل وجه، وببهاء قلّ نظيره.
الأمر ذاته واجهني عندما قرأت على أحد المواقع الإلكترونية عن أمّ مهندسة، لم تكتفِ بإعادة تدوير ملابس ابنها الأكبر إلى الأصغر، بل صارت «بناطيل» الجينز الخاصة بولديها تتحول بإبداعها ومهارتها في الخياطة التي اكتسبتها من والدتها إلى حقيبة مدرسية جميلة ومتينة، مع مقلمة، وأن ما دفعها إلى ذلك الفعل هو المفاجأة بالارتفاع المبالغ فيه لأسعار الحقائب، بحيث تجاوز سعر أقل واحدة منها العشرين ألف ليرة، فضلاً عن أنها ليست من نوعية جيدة، وإمعاناً في التوفير استعانت بإحدى المطابع القريبة من بيتها لتوفير ورق مُسطَّر ولتقوم عند إحدى المكتبات بخرزه ضمن كرتونة ملونة بسيطة، أو وضع سلك لبعضها، صانعةً مجموعة باهرة من الدفاتر من دون تكاليف عالية كالتي يتم بيعها، بحجة غلاء الورق والأغلفة المزينة وما إلى هنالك، أي أنها استطاعت تأمين الحاجيات المدرسية الأساسية لولديها ببراعتها وحُسن تدبيرها، من دون الارتهان للسوق ومرابح التُّجَّار الخيالية.
وصدقوني إن مجرد نظرة على هذه المنتجات «البدائية» وجودتها وجمالياتها، ستعطينا فكرة عما نخسره بسبب رضوخنا للبضاعة الرائجة مهما كانت سيئة، وللموضة على ارتفاع أسعار منتجاتها، بحيث لو وقفنا ضد مقولة «حسب السوق منسوق»، فإننا سنكون أكثر قدرة على أن «نسوق» وفق شروطنا، وحسبما تمليه إرادتنا، وطوبى للمُدركين.