حكومات تطبّع.. والشعوب ترفض
رغم انطلاق قطار التطبيع من بعض العربان مع كيان الاحتلال الصهيوني منذ ما يزيد على نصف قرن، ورغم الهرولة غير المبررة، ورغم مواربة ما هو فوق الطاولة، والكثير منه تحت الطاولة، وبعيداً عن عيون الإعلام، ورغم محاولات البعض من دون حياء أو استحياء محاولة دمج هذا الكيان الغاصب المحتل الاستيطاني التوسعي من خلال شماعة سياسية أو تجارية أو علمية أو أكاديمية أو فنية أو رياضية أو التسامح الديني، الشعوب العربية بسوادها رفضت ولا تزال ترفض كل أوجه أشكال التطبيع، ولكن كما يقول المثل العربي “إنْ لم تستحِ فافعل ما شئت.”
ففي الوقت الذي ترفض فيه طالبة الهندسة المعمارية في الجامعة الأردنية لينا الحوراني الاستمرار في مسابقة المليون دولار التي تقيمها جامعة جون هوبكنز الأمريكية لإيجاد حلول لمدن العالم الثقافية من آثار جائحة «كورونا» على المستويات الاقتصادية والحضارية، وتنسحب رغم ضمان فوزها الأكيد لوجود منافسة إسرائيلية واعتماد «تل أبيب» كمدينة قائلة: «نحن مبادئ تختبر، وإن ركب الشرفاء يسير، فمن أراد الالتحاق به فليفعل ومن أراد التنحي فليفعل وله ما شاء، أنا شخصياً لن أعترف بالاحتلال، وإن منافستي مع من أصارعه على الوجود في الأصل إثبات لوجوده وهذا مرفوض».
هذا الموقف الكبير النبيل والشهم والرسالة نابعان من قلب طفلة لا تجيد فن الكذب والنفاق والخداع والكيل بمكيالين، هي ترفض الملايين، وترفض الضغط المباشر من جامعتها، وتأبى إلا أن تكون نبراساً، ونجمةَ صبحٍ.. نتمنى على من يطبّعون في رابعة النهار الاهتداء بها.
الحوراني ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في هذه الأمة التي مازالت تنجب الأبطال، رغم انبطاح الكثير من حكوماتها، فقد سبقها انسحاب لاعب الجودو السوداني محمد عبد الرسول في أولمبياد طوكيو 2021 لتجنب مواجهة اللاعب الإسرائيلي، وانسحابه جاء بعد يومين فقط من انسحاب لاعب الجودو الجزائري فتحي نورين، وهذه المرة الثانية التي ينسحب فيها نورين من هذه البطولة، فقد انسحب من بطولة العام 2019 رغم أن التتويج كان حتمياً محققاً، قائلاً: «لقد تعبنا كثيراً للوصول للألعاب الأولمبية العالمية، لكن القضية الفلسطينية أكبر من هذه الأمور، وهذا أقل ما نقدمه للقضية الفلسطينية ولأرواح الشهداء العرب من أجلها».
هذه الرسائل المشرقة سواء من الحوراني أو من عبد الرسول أو نورين لم يحس أو يشعر بها السفير البحريني خالد الجلاهمة متفاخراً، من قلب القدس المحتلة والمحاصرة، بكل وقاحة وصلف “أنه سفير بلاده وأن هذا الحدث تاريخي”، وهنا نسأل سعادة السفير فوق العادة: عن أي حدث “تاريخي” تتحدث؟ هل هو فتح، تحرير، زعيم مقاومة، حامل راية المقاطعة، ولماذا؟ هل مملكتكم محاددة لفلسطين المحتلة، وهل كانت في يوم من الأيام تواجه غطرسة الكيان الصهيوني؟ وهل قدمتم شهيداً على ترابها المقدس، ولقدسها الشريف، أولى القبلتين؟ بل هل لديكم رعايا في فلسطين المحتلة لخدمتهم، وهل للكيان الصهيوني رعايا في المنامة لفتح سفارة لهم، وهل دعمتم يوماً القضية الفلسطينية بطلقة مسدس، أو بدينار أو حتى إعلامياً وذلك أضعف الإيمان؟، بل ماذا تريد مشيخة البحرين من تقديم خدمة مجانية للكيان الصهيوني، وتعترف بوجوده وحدوده المفتوحة ولتسريع العلاقات الاقتصادية والثقافية والإعلامية والأهم العسكرية المفتوحة من دون قيود أو حدود؟.
تفاخر الجلاهمة الفاجر لن يلغي الحقيقة الثابتة وهي أن الشعوب العربية من محيطها إلى خليجها رغم محاولة بعض الحكومات زرع «إسرائيل» بين شعوبها رغماً عنهم، ستبقى كارهة للكيان الصهيوني ورافضة للتطبيع معه، والسنين التي تزيد على الخمسين خير شهادة على اتفاقيات كامب- ديفيد /1979/ ووادي عربة /1994/ وحتى أوسلو1 /1993/ وأوسلو2 /1995/، ووجود ثلاثة سفراء قبله، وكل هذا الإغداق للكيان لم ولن يغير من طبع العقرب الصهيوني القائم على اللدغ والتوسع والاستيطان والاحتلال وإلغاء الآخر رغم محاولة بعض الحكومات العربية احتضان هذا الكيان الاحتلالي، وزرعه عنوة في الجسد العربي، ولماذا هذا التهافت والتسابق بين بعض العواصم العربية للارتماء في حضن الكيان الصهيوني وهو في أضعف حالاته وحربه الرابعة على غزة خير دليل، وهو يغوص أكثر فأكثر في مستنقع التشتت والضعف والانقسام، والانتخابات الصهيونية الأربع المتتالية خير دليل، وكل هذا يشي بأن هذا البيت الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت، وهو في حالة نار تحت رماد، ومشبع بالعنصرية والكراهية لكل ما هو غير صهيوني، و«قانون الدولة اليهودية» خير دليل.
نختم بتسجيل تقديرنا لكل المنسحبين المعلن عنهم، ومن سبقهم من مواجهة اللاعبين الصهاينة، ليس خوفاً وإنما عظمةٌ وكبرياءٌ وشموخٌ، الذين يعدون القضية الفلسطينية خيارهم والقدس قبلتهم والبقية سيان، وليس مثل بعض المشيخات التي تعدّ الكيان الصهيوني صديقاً في الوقت الذي تعادي فيه أشقاءها أصحاب الأرض المحتلة المقدسة، وجيرانها من عيار إيران بحجج واهية أكل الزمن عليها وشرب لتبرير زيادة التطبيع الاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي والديني مستقبلاً مع هذا الكيان الغاصب من دون حياء، وهذا الانبطاح والتهافت والتنازل المجاني يأتي بتزامن العدوان الإسرائيلي الجبان على الأراضي السورية ليكمل سلسلة انتهاكات وجرائم “إسرائيل” بحق سورية وشعبها واستمراراً لتقديم كل أشكال الدعم لشراذم إرهابييها وأدواتها وعرقلة الحل السياسي للأزمة في سورية وهذا يعيه محور المقاومة ومستعد له، وانتصار غزة الأخير أعاد الكرة إلى المربع الأول، ووأد كل محاولاتهم حتى ما تحقق من ما يسمى «صفقة القرن»، لأن العدو واحد، والحقوق لا تسقط بتقادم الزمن ولا بدعاء القوة الكاذبة والتفوق وامتلاك أسلحة نووية من الكيان الصهيوني.
فهل يتعلم المطبّعون المهرولون ويتعظون من دعم الغرب لهذا الكيان الصهيوني واسترضاء لوبياته وحلب “ضروع” جديدة على حساب الحقوق العربية المشروعة عامة والقضية الفلسطينية خاصة؟ أم فالج لا تعالج!