لا ينقصني شيء بتاتاً في هذا الوجود، وروتيني اليومي لا أبدِّله بكنوز الكون, منذ الصباح أستعيد توازني مع فنجان قهوتي السادة وشتلة الريحان على شرفتي ووجه حبيبتي، أحتسي البُنَّ كمثقّف عُضويّ أصيل، ثم أهرول إلى الفرن، وأنتظم بدوري كما يفعل البريطانيون، ولا أزيح عنه رغم اللكزات والأكواع واللطم وبرغم الطابور الخامس، فـ«الشغلة شغلة مبدأ», وأنا من يوم يومي مبدئي، ومتمسك بما أنا عليه، وما إن أحصل على «خبزنا كفاف يومنا» أعود إلى بيتي منتشياً برائحة الأرغفة التي تغرف شغاف قلبي، وتجعل ابتسامتي على وجهي بعرض مترين، أودِّع عائلتي بعد «لُقَيمات الطَّيرِ»، حفاظاً على رشاقتي التي ستلزمني في الحصول على مقعد ضمن السرفيس بعد قليل في طريقي إلى عملي، أسعى دائماً للجلوس بجانب الشُّبّاك، وغالباً ما أَنحظُّ بالمقعد بجانب الباب، فأصبح كمُعاون السائق، أجمع له النقود وأعيد بقية الحساب، وأعمل كأتوماتيك الباب، أفتح وأغلق، خاصةً أنني سأنزل في آخر الخط، كل ذلك وابتسامة الرضا التي يعدّها البعض بلهاء لا تفارق وجهي. ما علينا، أصل إلى مكان عملي، وهناك لا أتخلى عن كينونتي ولا ألبس قناعاً على وجهي، بل أبقى بكامل الحبور، برغم الضغط النفسي، والملل، والكآبة المعششة في التفاصيل، لكنه باب رزقي ومن واجبي أن أجعله صاحبي مهما جار عليّ، أليست فيروز هي القائلة: «بواب بواب.. شي غرب شي صحاب»، أنا أراه صاحبي وانتهى الأمر, وبعد الانتهاء من العمل، ينتظرني الكثير: الركض خلف صهاريج المياه لملء الخزان الفارغ، أو «نتع» بيدونات مياه الشرب إلى الطابق الخامس، أو البحث عن «الكنز المفقود» في الصيدليات وأعني أدوية أمي، وغير ذلك الكثير، ولا أفقد حماسي برغم انقطاع نفسي، بل أفي بوعودي لولديّ باصطحابهم إلى الملعب الترابي، ولزوجتي بمرافقتها للمباركة بولادة ابنة خالة زوجة عمِّها، ثم أحرص على شَحْن كل ما يمكن شحنه، وأتمنى لو كان بإمكاني أن أشحن نفسي، وما إن ينتصف الليل حتى أشعل سيجارتي «اللَّفّ», وأنفث دخانها إلى السَّماء الداكنة، قائلاً في قرارة نفسي: فعلاً؛ لا ينقصني شيء بتاتاً في هذا الوجود، سوى أن أعيش.