من نافلة القول إن امتلاك الدول، تلك المصنفة عظمى من قماشة الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، لأسباب القوة وأدواتها، يفضي إلى اكتسابها، خصوصاً إذا ما أتقنت السياسات إدارة تلك الثنائية بطريقة خادمة لها، لصنف من القوة الناعمة يطلق عليها في أدبيات السياسة “الهيبة”، التي تمثل في أحايين عدة بديلاً يُغني عن استخدام القوة الخشنة، أو الرمي بشتى صنوف الأثقال التي يتسع طيفها بدءاً من الدبلوماسية ومروراً بالاقتصادية وصولاً للعسكرية.
راكمت جعبة الولايات المتحدة منذ بروزها كقطب عالمي في أعقاب خروجها كدولة منتصرة من الحرب العالمية الثانية، الكثير من أسباب القوة وأدواتها، وكنتيجة كانت الجعبة تراكم أيضاً شتى صنوف القوة الناعمة التي قادت إلى ارتسام ملامح مفرطة لـ”الهيبة” لديها خصوصاً أنها كانت سباقة في رفع شعارات براقة كانت تمثل كبرى الأحلام عند كل الشعوب، إلا أن تلك الصورة كثيراً ما عانت اهتزازاً بفعل حسابات إستراتيجية كانت في غالبيتها خاطئة، كانت المحطة الأولى في الحرب التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية 1950- 1953، ثم جاء التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام 1964- 1975 ليحمل معه العديد من إشارات الاستفهام حول قوة عظمى تبدي تفوقاً غير مسبوق في سياق الأداء العسكري، لكنها تبدي قصوراً كبيراً في ردهات الغرف التي تديره، وكلا الفعلين كانا قد قادا إلى اهتزاز الصورة الأمريكية عند الحلفاء قبيل أن يفعل عند الخصوم، وما ساعد في “لملمتها” آنذاك هو احتدام الحرب الباردة الذي اقتضى تراصفاً غربياً وراء قيادتها، واقتضى أيضاً سعياً غربياً حثيثاً لتلميع تلك الصورة أياً تكن التشوهات التي أصابتها.
كانت المشاهد التي رصدتها العديد من الشاشات ووكالات الأنباء العالمية في مطار كابول بدءاً من يوم 15 آب الجاري فصاعداً، تشير إلى اهتزاز غير مسبوق للهيبة الأمريكية، وهو بالتأكيد يفوق ذينك الاهتزازين سابقي الذكر، فصورة الرئيس الأفغاني الهارب، والذي تهاوت مع فعله هذا الأخير كل المؤسسات التي ابتنتها الولايات المتحدة على مدى عشرين عاماً، تركت بصمات لن تمحى على صورة الأخيرة في العالم، ومعها، أي مع تلك الصورة، لم يعد ممكناً حتى لأشد المدافعين عن النظام الأمريكي وقدراته “الخارقة”، استعادة الثقة بذلك النظام وتلك القدرات، من الذي يثق بعد الآن بشعار “عادت أمريكا” الذي أطلقه الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد شهر من تنصيبه؟ ومن ذا الذي يثق بالتقديرات الأمريكية التي تكشفت أوهامها في أفغانستان؟ ثم هل تبقى من أحد في هذا العالم قادر أن يقول إن القوة الأمريكية لا تهزم؟
اليوم بات من الجائز القول إن انكسار الهيبة الأمريكية سوف يؤدي إلى تجاسر دول عدة عليها، وبمعنى أدق باتت آمال تلك الدول أقوى لتحقيق الفوز وإن يكن بالنقاط، هذا إن لم يدفع الانكسار إلى تجاسر تنظيمات راهنة، أو أخرى قد يستولدها رحم العنف الذي بذرته واشنطن في شتى الاتجاهات، والقيام بأعمال “تحرش” لجس النبض الأمريكي قبل توجيه ضربة قاصمة على نحو ما فعل تنظيم القاعدة حين اختبر ردة الفعل الأمريكية في نيروبي 1995 قبيل أن يذهب نحو نيويورك خريف العام 2001 تاركاً بصمة لا تمحى على جبين “الهيبة” الأمريكية.