خرجت في أعقاب سقوط العاصمة الأفغانية بأيدي طالبان يوم 15 آب الجاري نظرية مفادها أن الولايات المتحدة ارتضت الظهور بمظهر المهزوم أمام حركة مصنفة إرهابياً وفق لوائحها، وكذا وفق لوائح المجتمع الدولي أيضا، لأسباب إستراتيجية بعيدة المدى، وهي في مجملها تتعلق بصراعها مع الصين الذي ستحدد معالمه ملامح القرن الواحد والعشرين.
من المؤكد أن تلك النظرية تحظى بقسط وافر من الواقعية، خصوصاً أن واشنطن ما انفكت تعلن في إستراتيجياتها عن أن الأخيرة، أي الصين، هي التي تمثل “الخطر” الأكبر الذي يتهدد مكانتها العالمية، وبمعنى أدق يتهدد سطوتها التي تكرست منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وخصوصاً أيضاً أن فعل الانسحاب الأمريكي سوف يكون، من حيث النتيجة، فعلاً منغصاً لبكين، وكذا لموسكو وطهران، من الصعب الآن تقدير المدى الذي يمكن أن يصل إليه.
وتضيف تلك النظرية: إن واشنطن بانسحابها من أفغانستان تكون قد استطاعت ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، الأول أنها نجحت، عبر إيصال حركة طالبان إلى السلطة في كابول، في قطع طريق الحرير الصيني، أما الطريق البديل لأفغانستان، والذي تمثله باكستان هنا، فإن من المقدر له أن يقطع أيضاً هو الآخر عشية خروج الدخان الأبيض من فيينا، الذي سيعني توصل الأمريكيين والإيرانيين إلى اتفاق شامل قوامه الأساس هو إحياء الاتفاق النووي الإيراني الموقع ما بين طهران ومجموعة 5+1 في تموز 2015، والذي ألغاه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أيار من العام 2018، ثاني العصافير هو أن واشنطن ستتمكن عبر التهديد بخلق أزمة لجوء أفغاني إلى أوروبا، التي تلوح تباشيرها في الأفق، من إعادة العديد من الدول الأوروبية إلى وضع “تحت السيطرة”، خصوصاً منها تلك التي أبدت تناغماً مع مشروع “الحزام والطريق” الصيني مثل إيطاليا وألمانيا، أما ثالث العصافير فهو الاستثمار في وضع مترد سيكون الاقتصاد التركي على موعد معه لن يتعدى الأشهر الستة المقبلة التي تلي الحدث الأفغاني، وعندها ستضمن واشنطن عودة أنقرة النهائية إلى الحضن الأمريكي.
حتى ولو تحققت المرامي الأمريكية سابقة الذكر كلها، فإن الأثمان الأمريكية للحصول عليها ستكون باهظة التكاليف، فالولايات المتحدة التي رفعت شعار ما يسمى “الحرب على الإرهاب” منذ أحداث 11 أيلول 2001، ها هي تظهر اليوم بصورة المهزوم أمام حركة إرهابية، بل متهمة أيضاً بأنها كانت الرحم الذي خرجت منه تلك الأحداث، وهذا سيكون له تداعياته الخطرة على النسيج المجتمعي الأمريكي بكل أطيافه، مما يمكن تلمس البوادر الأولى له في الأصوات، التي لا تزال محصورة إلى الآن في نطاق إعلامي، التي وجهت إلى الرئيس بايدن تدعوه فيها إلى الاستقالة، ومعه وزيرا خارجيته ودفاعه، ناهيك عن أن الحسابات، أياً تكن مراميها البعيدة، يجب أن لا يغيب عنها حساب “الهيبة” لدولة عظمى، بل لا يجوز لتلك الحسابات وضع هذه الأخيرة في الميزان، إذ لطالما كان ذلك المعيار بديلاً يمكن له أن يجنب، من يمتلكه، مغبة الدخول في أزمات، واختصار الكثير من تكلفتها التي تفرضها عملية الرمي بالثقل المباشر.