هروب أخير

تصل الولايات المتحدة الليل بالنهار لإنجاز الانسحاب الكامل والشامل والخاطف من أفغانستان قبل 11 أيلول القادم، التزاماً لما ألزم الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه به في نيسان الماضي، وآخر الانسحابات كان من قاعدة «باغرام» الجوية الحيوية الأهم لأمريكا ليس في أفغانستان وحسب.

هذه الانسحابات المتعجلة والمتسرعة تخفي وراءها عشرات الأسئلة، فهل هي عشوائية أم مدروسة ومحسوبة في غياب مقرات صنع القرار في أمريكا، منذ شهور على أقل تقدير؟ وإلا لماذا هذا الانسحاب المفاجئ وسيطرة «طالبان» على أغلبية عواصم الولايات الأفغانية، حتى أمست على مرمى حجر من «كابول» عاصمة البلاد ورمز سيادتها..

هل تريد أمريكا خلط الأوراق في هذه البقعة الحساسة والحيوية من العالم؟

هل تريد قطع الطريق على التنين الصيني بعد أن توضّحت معالم مشروع الحزام والطريق البري والبحري والجوي ومناطق التمركز والارتكاز؟

أم تريد إشغال روسيا بعد أن أصبحت قوة عالمية كما كانت أيام “السوفييت” كما أشغلتها في العام 1994 عند تأسيس حركة «طالبان» آنذاك في ذات الجغرافيا الوعرة القاسية والمتاخمة لحدودها؟

أم تريد إشغال الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد أن أصبحت هي الأخرى قوة إقليمية وتسير بخطا ثابتة نحو العالمية ولا يمكن تجاوزها؟

أم تريد إشغال الهند وباكستان؟

أم تريد من ذلك «حلب ضروع» خليجية جديدة لغايات بعيدة المدى؟

أم تريد واشنطن خلط الأوراق كلها، من إشغال المحور الصيني- الروسي- الإيراني مع محور المقاومة بـ«طالبان» الجديدة القديمة ولكن بغايات وأهداف أمريكية عصرية وبأسلوب ناعم وخفي وجديد، عبر حرب اقتصادية سياسية ناعمة تتناسب والأهداف والمستجدات الحالية؟

القائمة تطول بما لا يتسع له مجال زاويتنا، وإن كنا أوردنا الأبرز.

الإجابة على هذه الأسئلة لا تتطلب الكثير من العناء، لأنه كما هو واضح أن واشنطن تريد تحقيق كل هذه الأهداف، وكل هذه النتائج في ضربة واحدة، وإلا لماذا تنسحب وهي ليست مرغمة كما تدّعي، وليس خلاف إرادتها وإنما تكتيك قريب يُراد منه أهداف بعيدة.

ومن أين جاءت هذه القوة لحركة «طالبان» وهي من المفترض أنها كانت معزولة ومحاصرة ومراقبة من القوة الأعظم أمريكا وحلفائها؟ بل لماذا هذا الضعف من الجيش الأفغاني الذي صُرفت عليه المليارات خلال 20 عاماً من تسليح وعتاد وتدريب وبرعاية أمريكية- غربية وخليجية؟،

وعلى ماذا صرفت الأموال الأمريكية بحربها على أفغانستان التي تقدر 978 مليار دولار (حتى عام 2020) وفق الـ”واشنطن بوست” وكلفت دافع الضرائب البريطاني 32 مليار دولار حسب “الغارديان”؟ وأين جيوش الدول 35 المشاركة في التحالف ضد “طالبان”؟

بل لماذا تصرّح الإدارة الأمريكية أن قواتها لا تنوي استخدام مطار «كابول» للهجوم أو صد «طالبان»؟، هل هو الضوء الأخضر لاجتياح العاصمة؟

ولماذا فرطت مسبحة الولايات الأفغانية تباعاً من دون قتال بهذه السرعة؟

وأين الجيش الأفغاني مما يحدث؟

وماذا وراء طلب الإدارة الأمريكية من مشيخة قطر التدخل عند «طالبان» لتأخير السيطرة المطلقة على البلاد؟

ولماذا الخارجية الأمريكية تأمر سفارتها في «كابول» بإحراق كل وثائقها، هل لتخفي العلاقة الوطيدة مع «طالبان»؟

ولماذا تطلب الدول الغربية تباعاً من رعاياها مغادرة أفغانستان فوراً؟

بل لماذا تصرّح البنتاغون: إذا احتوت «طالبان» “القاعدة” سنعود، هل لحساب خط تبرير الرجعة في الوقت المناسب؟

لاشكّ أن أمريكا مدرسة في أعادة هيكلة وتدوير الحركات الإرهابية وإعادة توظيفها لخدمة مصالحها، وهي قادرة بلا شك على تبديل جلدها في كل بقعة وكل جغرافيا.

ملخص ما سبق أن واشنطن تريد إحباط مشروع الحزام والطريق، بل قطع كل الجسور بين الشرق والغرب في هذه المنطقة الإستراتيجية الحيوية البكر، وفي الوقت ذاته تسخين حدود أفغانستان مع روسيا وإيران والهند وباكستان، وهذا ما يفسر سيطرة حركة «طالبان» خلال ساعات وأيام قليلة على ثلثي عواصم ولايات أفغانستان الـ/34/خاصة القريبة من إيران.

ولا يهم إن كان الحاصل مسرحية أم لا، فالعبرة في الخواتيم، والإدارة الأمريكية تريد من هذه التمثيلية المكشوفة إزعاج موسكو من حدود أفغانستان عبر نشر واحتضان آلاف المرتزقة والإرهابيين على تخوم حدودها، وفي الوقت ذاته تسخين خاصرة إيران عبر دسّ الاستخبارات الإسرائيلية على الحدود الأفغانية- الإيرانية، وكل هذا بتمويل من بعض المشيخات لتكون حرباً متقدمة لـ«ناتو» عبر حربة النظام التركي.

إذا، وكما هو واضح أن الإدارات الأمريكية توظف «طالبان» كما «داعش» و«النصرة» و«الإخوان المسلمين» وكل الحركات الإسلاموية لأداء وظيفة تنفذها بمنتهى الدقة لتحقيق مصالحها القريبة والبعيدة، ولا يهمها مصير الأمم أو الشعوب، ولا النزوح، ولا تدمير البلاد والعباد، هذا هو منطق أمريكا القديم- الجديد الذي قام على جماجم الهنود السكان الأصليين فيها، ولكن هذا لا يعني –رغم حبكتها- أنها سوف تصل إلى ما تصبو إليه.

اليوم غير البارحة، وكما هي تخطط، فالصين وروسيا والهند وإيران وباكستان ومحور المقاومة لهم كلمتهم، وقد خبرتهم الإدارة الأمريكية أكثر من مرة، وهذا ما تخشاه، لذا هي تذهب إلى حرب استباقية مع هذا المحور مجتمعاً، وسوف تكون نهايتها على يديه.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار