ما إن أقبل صديقي نجار الباطون «أبو إسماعيل»، حتى بدت عليه علامات التَّكدُّر والانزعاج، حتى تُحِسَّ أن عروق يديه وصَدغيه ورقبته ستنفجر، حُمرةُ وجهه الأسمر بادية من على بعد (3) كيلو مترات، وعيناه متعبتان إن لم أقل مُطفأتين.
اقترب مني وجلس على الكرسي كَمَن هدَّه التَّعب. لم أعتد عليه هكذا، فهو مثالي عن القوة والجَسارة وقهر الحديد والإسمنت والظروف جميعها، قلت في نفسي، لن أسأله عن حاله، فهذا السؤال نافل في مثل هذه الأزمان المُرّة، لذا قررت أن أُداعبه بالكلام كما أفعل عادةً، اقتربت منه مع ابتسامةٍ ماكرة، وهمست في أذنه، كمن يُريد أن يقول سِرّاً: «كيفك مع أم إسماعيل؟»، شفّت ابتسامة صعبة من بين شفتيه، وقال: هذا بالضبط ما أريد أن أحدِّثك عنه.
استغربت كثيراً، ظنَّاً مني أن مشكلة مع زوجته وحبيبته هي سبب كَدَرِه، لكن ظنوني تبدَّدت حين بدأ حديثه:
يا صديقي، أظن أن أعظم أعبائنا ناجمة عن التوقيت السيئ لقراراتنا. تخيَّل أن يؤجِّل الطبيب استئصال الكتلة السرطانية في جسم مريضه من دون مبرر، وحين يُقرر استئصالها يكتشف انتشار الخلايا المُسرطنة في أكثر من مكان، بحيث يخسر مزايا الاستئصال، وربما يخسر المريض حياته، أو مثلاً أن يُلاحظ المهندس أن سقفاً بحاجة إلى التدعيم، لكنه كي لا يُقلِّل من أرباحه، يتغاضى عن ذلك، فيقع السقف، وقد يترافق ذلك مع كارثة إنسانية، أو تخيَّل محامياً ترك بين يديه ورقة رابحة تدعم قضية موكِّله، لكنه أرجأ إبرازها حتى باتت من دون قيمة تُذكر… التوقيت مهم جداً في اتخاذ القرارات، وهذا ما لا تعيه بعض مؤسساتنا ولا معظم القائمين على خدمتنا وتوفير مستلزمات حياتنا، فهل من المعقول رفع سعر الخبز ومن ثم إنقاص حصة العائلة منه، مع علمهم أن نسبة كبيرة تعيش على الخبز وحده؟ وهل من الجائز رفع سعر المازوت في زمن امتحانات طلاب الجامعات وقبل العيد بعدة أيام؟ وإذا أردت أن أحصي لك التوقيتات الخاطئة لما انتهيت بعد ثلاثة أيام. وكي لا أوجع لك رأسك، أتوقع أن حياءَك جعلك تسألني عن أم إسماعيل بدل سؤالك عن أحوالي، لذا سأجيبك: حالي من دون خبز كـ« جبلة شمينتو» 90% منها رملاً مع رشّة إسمنت .. وتضل بخير.