أوروبا – تركيا.. ذرا التلاقي ووديان الفراق
لا شك في أن الجغرافيا حاكم مستبد يحدد إلى درجة بعيدة وجهة الكثير من السياسات التي تنتهجها الأمم والشعوب في مساراتها التي تنحصر أحياناً في المحافظة على البقاء، وطوراً تعلو لتطمح في أداء دور يرقى إلى مصاف أداء دور فاعل عبر تمدداتها في الخارجين الأقرب فالأبعد، كذراع لتمدد النفوذ وتحقيق المصالح، أما التاريخ فهو أشبه بوعاء له أثر تراكمي من النوع الراسم لذاكرة الشعوب التي ترخي بحمولاتها شديدة الوطأة على تلك السياسات بشقيها المنحصر في الصراع من أجل البقاء، وذاك الطامح للعب دور أكبر كلما لاحت ظروف مناسبة للقيام بذلك الفعل.
في العلاقة التركية- الأوربية التي ترسمها هذه الثنائية سابقة الذكر، يمكن القول إن الجغرافيا كانت على الدوام عاملا يفرض التلاقيات، ما بين الطرفين، عند أهون الشرور، إلا أن سجلات التاريخ غالباً ما كانت تنضح بوجوب التباعد الذي تكرسه العديد من المحطات في تلك السجلات، بدءاً من إسقاط العثمانيين للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية 1453 م، ثم مرورا بالحروب الروسية- العثمانية التي دامت لأكثر من ثلاثة قرون، وشهدت ست جولات كبرى انتهت بهزيمة ساحقة للعثمانيين العام 1877 م، ومعها كبح جماح نزعة التمدد لدى هؤلاء، ووصولاً إلى المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن عام 1915، والتي لا تزال مفاعيلها آخذة بالتنامي عالمياً.
لم تلغ حربان عالميتان شهدهما القرن الماضي، وفيهما كانت تركيا حليفة النازية بفعل ضغط عامل الجغرافيا أولاً، ثم بدافع المحاولة لاستعادة “الحلم الضائع” ثانياً، لم تلغ الحربان التفكير من جديد لإيجاد قواسم مشتركة ما بين أنقرة والأوروبيين، حيث سيذهب الطرفان في مفاوضات ماراثونية كانت ترمي إلى انضمام الأولى للاتحاد الأوربي الذي تكاملت صورته بدءاً من مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
طالت المفاوضات التي كان من الواضح أنها بلا جدوى، فأثقال التاريخ، ومعها أثقال الحاضر كانت حاضرة وتجالس المفاوضين على طاولاتهم ولا تغادرها، ومباعث القلق هي أكبر بكثير من أن تهدأها تطمينات لا تبدو كافية، خصوصاً ما بعد صعود “الإسلام السياسي” لسدة السلطة في أنقرة العام 2002، ولا هي قادرة على محو ذاكرة أوروبية جمعية تطفح بالكثير، فيما تراكمات الحاضر تثقل على هذه الأخيرة لتجعلها وعاء غير قادر على استيعاب المزيد.
في 9 حزيران الماضي أصدر البرلمان الأوربي قراراً باعتبار حركة “الذئاب الرمادية” التركية حركة إرهابية، والحركة السابقة تصنف على أنها قومية متطرفة، بمعنى أنها تنضوي تحت لواء حلفاء الحركة القومية شريكة حزب “العدالة والتنمية” في السلطة القائمة راهناً في تركيا، والفعل من المتوقع له أن يثير أزمة كبيرة فيما بين الأتراك والأوروبيين هي أشبه بكرة ثلج لن تكف عن تنامي حجمها كلما طال بها مسار التدحرج أكثر.