أقنعة مكشوفة
رغم اعتراف الكيان الصهيوني بالفضل الكبير للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فالأخير كان صهيونياً أكثر من الصهاينة أنفسهم.
قدم للكيان الصهيوني ما لم يقدمه متزعمو الكيان المغتصب، هذا بشهادة كل مراكز الأبحاث وصنع القرار العالمية، فمن إعلان مدينة القدس المحتلة “عاصمة” لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، ومحاولة “شرعنة” عمليات الاستيطان وتجفيف كل المساعدات عن وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وفتح مخازن الأسلحة الأمريكية حتى الممنوعة دولياً لجيش الاحتلال وممارسة سياسة “العصا والجزرة” لتسويق كيان الاحتلال عند بعض العرب عبر عمليات التطبيع المجانية السرية والعلنية، فمع كل هذا والعطايا المجانية لم تشفع لساكن البيت الأبيض آنذاك، فهزم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وسقط معه كل ما كان يتعلق به بدءاً من صهره كوشنير مبعوثه الخاص وكاتم أسراره وصندوقه الأسود في إتمام الصفقات مع بعض المشيخات.
لا شك أن سقوط ترامب كان مدوياً ولكن المثير كان سقوط نتنياهو بعد تراجيديا الانتخابات الإسرائيلية للمرة الرابعة خلال أقل من عامين من دون أن يحقق مبتغاه في تشكيلة حكومة مطلقة تخوله الحكم بشكل مطلق وتغيير “القوانين” على أمل الإفلات من تهم الخيانة العظمى والفساد والرشوة، ولكن اللافت قبول الشارع الصهيوني رغم كل ذلك لأنه لا يشكل مفاجأة لهم لأنه من لب عظمهم وطبعه وسلوكه من طبعهم وسلوكهم.
ما نريد قوله والإشارة إليه أنه بعد كل هذا الصلف والتعجرف والغلو من الصديقين ترامب ونتنياهو تجاه العالم عامة والمنطقة العربية خاصة لخدمة الكيان ظهور تيار جارف وليد داخل البيت الصهيوني متعاطف ظاهرياً مع القضايا العربية وعلى رأسها القضية المركزية فلسطين، خاصة بعد العدوان الرابع على غزة وصمودها الأسطوري، ولكن ألا يندرج هذا التعاطف لتلميع صورة الكيان الصهيوني على مستوى الصهاينة واليهود ذاتهم ومن ثمة مع المتعاطفين معهم عبر تأليف وإخراج مسرحية متفق عليها بين واشنطن وتل أبيب “لدس السم بالدسم” عبر توجيه رسالة إلى الرئيس بايدن من زهاء 75 عضواً في مجلس النواب الأمريكي تطالبه بالاعتراف أن القدس وقطاع غزة والضفة الغربية أراض فلسطينية وأن المستوطنات التي بنيت وتبنى حالياً غير شرعية وخطر على السلام العادل المستقبلي الذي يمكن أن يتحقق عبر إقامة دولة فلسطين عاصمتها القدس الشريف إلى جانب “إسرائيل”.
ولم تكتف هذه العريضة بهذه المطالب المحقة فقط بل شددت على ضرورة منع كل المساعدات العسكرية الأمريكية “لإسرائيل” أو أن تكون مشروطة على الأقل بتحقيق السلام مع الفلسطينيين وفق تعبير الرسالة المومأ إليها، هذا من الجانب الأمريكي وفق فصول المسرحية التي أشرنا إليها، أما ما يخص الفصول الخاصة بالصهاينة وبروز منظمات مثل “جي ستريت” اليهودية التي كانت من أشد المؤيدين “لإسرائيل”، انتقدت هي الأخرى الاعتداء الصهيوني الأخير على غزة، لكنها في الحقيقة تسعى لإعادة صياغة مفهوم “دعم إسرائيل” أميركياً!
لا شك أن هذه التطورات “عريضة النواب الأمريكي وجي ستريت” مشكوك في نياتهما وحتى إن كانا مسرحية يراد منها تبييض وجه أمريكا و”إسرائيل” وهذا المرجح بعد أن وصلت سمعتهما إلى الحضيض ولكن رغم شكوكنا وتحفظنا على هذه الأهداف يمكن الاستفادة منها لعدة أسباب: دفنت ما يسمى قانون (يهودية الدولة) المقر 2018، وأنهت كل ما أنجز من ما يسمى (صفقة القرن) وبذات الوقت أحرجت المطبعين من المشيخات أمام شعوبها. ولكن السؤال الأهم: لماذا هذا التبدل؟
لاشك أنه جاء نتيجة تغيرات حتمية وملموسة على الأرض لأن الحليفين “الأمريكي والصهيوني” لا يؤخذان بالعواطف ولا بالأماني وإنما المعطيات على الأرض هي من تجعلهما يغيران من وجهيهما أو يغيران مواقفهما، وهذا حتماً جاء نتيجة الانتصارات المتتالية التي حققها محور المقاومة وآخرها الخروج من حرب غزة منتصراً، والتي أرادها نتنياهو جواز سفر إلى حكومة مطلقة، فكانت السيف الذي قصم عنقه وأبعده حتى عن حكومة مشتركة أولاً، وثانياً إبعاده عن رئاسة “حزب الليكود”. وكل هذا يشي بأن الكيان الصهيوني يتربع على صفيح ساخن ويعد بالمزيد من الحقن والغليان والعداء الداخلي بين ما يسمى أحزاب يمينية ويسارية ومعتدلة فيما بينها ناهيك عن التطرف التي بات يميز المجتمع الصهيوني كافة وبنفس الوقت أمسى هذا الخليط المتطرف معروفاً ومكشوفاً لكل الشعوب الحرة.
إذاً لم تعد تنفع سياسة التسويف ولم يعد ينفع “المونتاج ولا “الرتوش” التي يصطنعها المبضع الصهيوني بالجسم العالمي وباتت هذه المسرحيات والتمثيليات وتصنيع منظمات تدعي العدالة والشفافية في غياهب الموساد لتلميع وجه الكيان الصهيوني لإعادة تسويقه من جديد بقناع آخر جديد لن ينفع.
فهل يتعظ بعض العربان ويتراجعوا عن تطبيعهم المجاني مع هذا الكيان، أم يبقون مصرين على تقديم خدماتهم المجانية؟.