انسحاب فوق العادة
منذُ البداية كان الموضوع مجرد وقت لانسحاب جزئي للولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم نهائي من ساحات متعددة، وخاصة في الشرق الأوسط، لكن تغير الإيقاع على الساحة الدولية كان بانتظار تطورات ما، ربما حدثت بقمة جنيف وربما لم تأت بعد.
الرغبة الأمريكية بالانسحاب كانت قائمة والإدارة السابقة أعلنت عنها بأكثر من مناسبة -طبعاً ليس بهذا الوضوح- لكن التأخير بتنفيذ الانسحاب من ساحات متباعدة، كان مرتبطاً بتفاصيل الصفقة التي كان ينشدها الرئيس السابق دونالد ترامب، أي عدم الانسحاب بلا مقابل، لكن ذلك مشروط بعاملين، أولاً: أن تهنأ القوات الأمريكية في قواعدها، وثانياً: ألا تكلف الخزينة الأمريكية أي دولار.
العاملان لم يتحققا، فهذه القواعد أصبحت نقطة ضعف وعرضة لهجمات مميتة، وخاصة بسلاح جديد وفتاك “الطائرات المسيرة” من جهة، ومن الأخرى أصبح تواجد قوات أمريكية مشتتة مرهقاً بالنسبة للجيش وللاقتصاد، وحتى إن لم يعلن عن ذلك أمريكياً.
تسعى أمريكا لتجميع قواتها لضرورات عسكرية واقتصادية، للتركيز على هدفين محددين في العقيدة الإستراتيجية، أعلن عنهما في الأدبيات والخطط الإستراتجية الأمريكية “كخطر داهم”، ومنذ سنوات قليلة يتم الإشارة لهما، الأول: روسيا، والثاني: الصين .
الصين وروسيا كهدفين أمريكيين لا ينفع معهما تعدد الجبهات -إن كانت عسكرية أو اقتصادية- وفي حرب أمريكية مع كليهما أو احدهما (لا ينسى التكامل والعلاقات الوثيقة بينهما)، أمريكا بحاجة لكل جندي ولكل قطعة سلاح، وبخاصة منظومات الدفاع لديها “ثاد”، والتي سحبتها هي الأخرى من بعض مناطق انتشارها.
في المصطلح العسكري ما تقوم فيه أمريكا هو إعادة انتشار وتجميع للقوات ووضع سلم للأولويات، يناسب التغيرات الجديدة الحاصلة على الساحة الدولية، من تقارب روسي– صيني، وأيضاً نتيجة عوامل أخرى متغيرة وخاصة في مجال الطاقة ومحاور المواصلات وتطور الأسلحة، جميعها تفرض على أمريكا إعادة هيكلة ما لديها في سياق منافسة شديدة مع الأقطاب الأخرى.
أمريكا مضطرة لمجاراة التغيرات العالمية، لأسباب كثيرة منها، بلادة الحلفاء في الاستجابة للطلبات الأمريكية في رفع مشاركتهم في ميزانية “ناتو”، وأيضاً التقدم الاقتصادي والعسكري المذهل لكل من الصين وروسيا، إضافة للتكلفة المهولة للأسلحة الأمريكية.
ليس من المؤكد أن إخلاء أمريكا لبعض قواعدها، من ثمار لقاء جنيف بين الرئيس الروسي والأمريكي، لأن تحركات الجيوش التقليدية بحاجة لأكثر من الوقت الذي تلا اللقاء بكثير، لكن المعلوم أن الغطاء في مثل هذه الحالات ضروري ولو كان شكلياً.