كنا نتبادل الحديث الذي يُقال فيه «حديث الطقس» يعني الذي لا زبدة فيه ولا توليد أفكار، قلتُ غيرَ شاكية: اشتريتُ «ماعون الورق» بأحد عشر ألف ليرة، فقال بلا انفعال: منذ متى من الزمن؟.. أجبتُ: منذ عشرين يوماً!, واصل تحريك الملعقة في كوب القهوة: صار اليوم بخمسة عشر ألفاً، ولا أجد ضرورة لمثل هذا الإسراف، كلُّ الكتّاب صاروا يرسلون نصوص التّمثيليّات ملفّاً على «الإيميل», وعليك أن تفعلي مثلهم وتوفري مبالغ، هي في رأيي ترمى على الأرض!, تأملته وهو يفتح البريد الإلكترونيّ يتصفحه بهدوء ويمرّر الصّفحات بلمسة سريعة من أصابعه، بينما انساب خيالي إلى طاولة مكتبٍ تعجّ بالورق الذي فقد بياضه، وملأه نمشٌ مختلف الألوان والأحجام!, حروفٌ غير متناسقة، بعضها نال ضمّة, وأكثرها علتها شدّة، وسطور مستقيمة في الأعلى ما تلبث أن تنحدر في السطور الأخيرة لسبب لم أستطع له تفسيراً منذ كنت في الإبتدائية, وصار لزاماً علينا أن نكتب نصوصاً على ورق غير مسطور لنختبر سلامة الحواس والنظر وهندسة الدماغ!, ومنذ أعطتني معلمة اللغة العربية علامة متدنية في الخط، هرع أخي الأكبر لنجدتي واشترى لي دفتر خطٍّ ليذهب بي هذا الدفتر إلى رسم النون بالنقطة في وسطه كأنها نجمة معلّقة فوق نافذة، فإذا نزلت تستقرُّ تحتها انبسطت وتحوّلت إلى باء ليّنة الحواف، وتراءت اللام رشيقةً كعود الخيزران المنحني بوسامة أميرة الحكايات، أما الجيم والحاء والخاء والعين والغين فيا للمخاتلة التي كانت تفعلها لتبقى فوق السطر من دون أن تفقد قوامها وهي متحررة من الوصل مع غيرها من الحروف! الألف كانت أسهل الحروف وأكثرها ليونة وطواعية, وحيثما وُضعت استجابت للتطويل والتقصير وإذ امتدحت المعلمة فقرة مكتوبة بخط اليد قالت: ما أشبهها بزهر اللوز المتفتح على أمه الشجرة بداية الرّبيع!, وحين اجتمعت بهاوي خطّ فاجأني بأن بعض الأطباء يشخصون نوبة قلبية من كلمات مكتوبة باليد، لأن رجفة القلب تسري في حروف كاتبها!, بل وأكثر من ذلك، في هجمة التداعيات التي تزايدت في صمت الجلسة، رأيت بيكاسو يتمنى أن يبدع لوحات فيها جماليات الحروف العربية المكتوبة بأكثر من مدرسة: «نسخ, ثلث, ثلثين, الكوفي, الفارسي»… وكذلك «بن مقلة» الذي هندس بديعَه بعلم الحساب والرياضيات!.
سألني بطيبة بعد إغلاق جهاز الكومبيوتر: أليس حلاً نموذجياً أن تبدئي الكتابة الإلكترونية؟, فعلتِ هذا من قبل بمقالاتك الصحفية! هنا تفتّق جرح منسيٌّ آخر! –بلى!, كتبتُ المقال على الكومبيوتر لكنني كنت أراه على الورق ومنذ غاب الورق أقفرت حياتي, وخلت أنني أصبحت بذراعٍ واحدة، فلمَ تريد أن أفقد ذراعي الأخرى؟, هذا الجهاز حروفُه ميتة لا أنفاس تتردّد فيها، بل هي محنّطة وعاجزة عن الحياة مهما لمسناها وزحزحناها من أمكنتها!, اعذرني إن بقيت حريصةً على اللعب بتدوير الحروف وتجميلها إذا شردت وتلوّت وشاغبت وقبّحت سلوكها، لا أستطيع نكران جميل رفيق عمر كان أنيساً وجميلاً وباعث جمالٍ لا ينفد، ومن أجله سأبقى من مشتري الورق وأصحاب القلم!.