حتى اليوم، وبعد أن بلغت من العمر عتياً، ما زلت أجد الفرح في كثير من الأشياء الصغيرة، وبرغم ضغوطات الحياة الهائلة، وصعوبات العيش، ولا منطقية الواقع، إلا أنّ فسحة أفراح مازالت تُطل عليّ بين الفينة والأخرى، تاركةً المجال لمداورة التعب، والتَّصدّي للنكد، ومواجهة الأحزان المديدة.
أتلمَّس الفرح في أنثى مرّت للتو، تاركةً عطرها يخلخل فضاء الانتظار المرير، ويُلوِّن عتمة الطُّرقات.. كما ألقى الفرح في قطعة شِعْر خرجت طازجةً من روح شاعرها، فأُحِسُّ بأنها صيغت كتميمة ضد الخراب.. وفي شربة ماءٍ بارد من نبع ضيعة يسخر من حرارة الشمس، وثقب الأوزون، والتغيرات المناخية الكونية.
وأُعجَبُ به في فرح البسطاء، يضحكون بشفاههم اليابسة وأسنانهم المُهترئة على هذه الوحشة التي تُغلِّف أوقاتنا .. وأراه يُلوِّح لي مع الهواء يتغلغل في شَعر الصبية الكستنائي، وهو يتسلل هارباً من نافذة الباص الأخضر العتيق.
وبدل أن أمْسِكُهُ يُمسكِني، من خلال أغنيةٍ مفعمة بالذكريات، وكأنّها آلة للزمن، تُعيدني إلى اللّحن البهيج للأيام الماضية، وإيقاعها الحيوي، والتناغم الهائل لما كُنَّاه.. وأتحيَّنُ استقباله في ضحكة طفل يحبو خلف كُرَته, وما أن يلتقطها حتى تكرج أمامه من جديد. وألتقطه في كأس شاي خمير، مع صديق يُتقن تحضيره بمزاج عالٍ، وكأنّه من أفضل خيميائيي الزمن المعاصر.. وأيضاً أستشفُّه في عينَيّ عاشقين، سرقا من الزَّمن موعداً، فأصبح الكون بالنسبة لهما هو ذاك الموعد ولا شيء آخر.
وأعثر عليه ببساطة في عطر الوردة، وحفيف الشجر، وفي فاكهة الصيف، وفنجان قهوة الصباح مع حبيبتي، وفي دعوات أُمِّي التي تُروحِنُني، وأفرح بالفرح في أصابع ابني يعزف الأكورديون، وفي صوت ابنتي يتسلَّق السُّلَّم الموسيقي على مهل.
كما يتسلَّل إلى روحي مع سيجارة اللَّف، وكأس المساء، وأصوات الطرب، ومع التماعة وصل التيار الكهربائي، وفي رسالة من صديق بعيد، أو عبر هدية بلا موعد، وغيرها الكثير الكثير.
أرأيتم ما أسهل الفرح؟!.