“أنت جريح” يقارب واقع الحرب دون تجسيده
إلى الحرب اللعينة، يضخنا “ناجي طعمة” مباشرة ومن دون مقدمات، يرمي بأشلائنا المبعثرة هنا وهناك، نحو رحى الدم الشرسة بين أبطال الجيش العربي السوري وحثالة من إرهابيي “داعش”، والزمن قبيل تحرير حلب بقليل.
يُظهِرُ “طعمة” لنا شخوص قصة فلمه “أنتَ جريح” الذي عرض مؤخراً على مسرح دار الثقافة في حمص، يظهرهم كأناس حقيقيين، لهم عائلة وأحبة ووطن ليفدوه، موحداً لهجات أبطال قصته على اختلاف محافظاتهم، وكأنه يقول لنا: ليس مهماً من أين أتوا، المهم أنهم سوريون حتى النخاع، جُبِلوا بتراب وطنهم، وأرسوا جبال وحدتها واستقلالها وتحريرها، ودفعوا في سبيل ذلك الدماء والأعضاء والأرواح.
إنها حرب السوريين ضد حثالة البشر، رعاع أتوا من جميع أصقاع الأرض، لا يجمع بينهم إلا علم أسود كقلوبهم الحاقدة.
مشهد المعركة على قسوته بدا وكأنه جُذب من أرض الواقع مباشرةً إلى شاشة السينما، وقد أبدع طعمة في تجسيده حتى استطاع تمرير الخوف إلى قلوبنا المستعدة لتلقي الأحداث المتسارعة، لكنها – أي الأحداث – من بعد ذلك تراتلت بهدوءٍ مستفز للأسف على عكس توقعاتنا، فجاءت جمل السيناريو الذي خطه “قمر الزمان علوش” واضحة حدّ المبالغة في تفسير الوضع الحياتي لشخوص القصة، فلوران “بلال مارتيني” الذي كان يحضّر نفسه لخطبة حبيبة قلبه “سوسن” كان هادئاً بالنسبة إلى شاب استشهد صديقه “أحمد” منذ ساعات، وهو يخبر صديقه الآخر الملازم أول إياد “خالد شباط” أن خطبته لن تتم إلا بحضوره، و”إياد” لم يمانع سوى للحظات، رغم شعوره بالحرج، بأن ينزل ضيفاً في بيت صديقه في إحدى الضيع البسيطة في الجبال السورية، رغم أنه لم يأخذ أي إجازة منذ أكثر من سنة لأنه عاجز عن زيارة أهله الذين يرزحون تحت سيطرة الإرهابيين في إحدى مناطق حلب.
بدوره غسان “علي صطوف” قدم لنا صورة وصوت الجريح الحقيقي الغاضب من بقائه على قيد نصف حياة، لا يملك فيها إلا أن يراقب ما يحصل حوله، ويزور جرفه الصخري من حين لآخر، ليفرغ ما في جوفه من ألم دون أن يلمس شفقة العيون الواقفة فوق كرسيه المتحرك، إنه الجريح السوري الذي خلع من أشلائه لصقات طبية، ليوقف نزيف الأرض، لكن هل يكفي لتكريمه وتقديس أعضائه المبتورة أي أدب أو شعر أو نشيد أو حتى ترتيلة؟ يذكرنا كل ذلك ربما بجرحه المؤبد النزف لكن لا يكفي، لأن “غسان” الذي أعطى نصف جسده كرمى لعيون حلب، هددنا بالانتحار إن بقيت حلب في براثن شياطين الأرض، وسامحنا بجرحه إن هي تحررت، نعم، هذا فقط ما يكفي الجريح.
“أنت جريح” كرّم أيضاً الأم السورية الجميلة القوية، وقدمتها المبدعة “نادين خوري” بشكل مبهر رغم أنه جاء مرقعاً ببعض التكرار، لكنها رصعته بكثير من الشغف أبكت فيه قلوبنا المتعبة وهي تحاول لملمة أشلاء أولادها ومعانقة أرواحهم الذابلة كما سورية الأم، التي مافتئت تخيط جراح روحها حتى تلتفت لتداوي أبناءها وتجمعهم على حب تراب هذا الوطن الواسع، الذي وحتى هذه اللحظة تفتح دولته ذراعيها لكل سوري يريد أن يرجع إلى حضنها، وتعطيه فرصة أخرى مهما كانت جرائمه ومهما كان ذلك لا يرضينا كمواطنين، وهي فكرة هامة مررها كاتب الفيلم موائماً بين الأم وسورية، غير مفرق بين قلبيهما.
السيناريو المبسط والقصة لم يكونا بالجديدين – ربما – على شعب عاش أهوال الحرب الإرهابية لعشر سنوات عجاف، لكنها – أي القصة – لامستنا في الصميم في نقاط عدّة، أهمها أنها حملت صوت الجريح السوري الذي نسيه الناس وأداروا عنه وجوه قلوبهم لهول الإشباع بالألم أو لهولٍ آخر، وفي الحين الذي استفزنا الوضوح المبالغ فيه في أمر جوازات السفر المختلفة التي وجدت مع قتلى الإرهابيين مثلاً، وهو أمر غريب بالنسبة لأشخاص ذاهبون إلى الشهادة بأن يحملوا جوازات سفرهم! إلّا أن هذا الوضوح كان موفقاً في أحيان أخرى، كخوف “إياد” من عدم تقبل أهل “لوران” له لكونه قادماً من منطقة أغلب أهلها حملوا السلاح ضد جيش بلدهم، على سبيل المثال لا الحصر.
أخطاء إخراجية
قدم لنا مخرج “أنتَ جريح” صورة مثالية بعيدة عن واقع الريف الجبلي، إذ بدت ضيعة “لوران” رغم إطلالتها الشاهقة، ضيعة متحضرة إلى حدّ جيد، تشابه الضيع اللبنانية ربما، وقد ظهر ذلك في أثاث المنزل الجميل والأنيق على بساطته والبعيد عن المجالس العربية البسيطة التي اعتدنا رؤيتها في أريافنا، كذلك الأمر في أزياء “نايا” شقيقة “لوران” التي بدت أنيقة وجميلة حتى وهي تركب “الجرار” المستهجن استخدامه في المناطق الجبلية التي تعتمد طريقة المدرجات في الزراعة، وهي ترتدي قبعة قش أنيقة، لتنتقل في اليوم التالي إلى لبس فستان قصير داخل المنزل ثم تخرج فيه تحت المطر، وعلى الرغم من الرسالة الجميلة التي أحب كاتب العمل “قمر الزمان علوش” إيصالها لنا عن دور ومكانة المرأة السورية التي حلّت محل إخوانها الشباب وقت غيابهم للذود عن أرض الوطن، إلا أن “كندا حنا” وقفت بعيدة دون انسجام بشخصية الفتاة الريفية الفلاحة، وبدت أقرب إلى رتابة المدينة وتأنقها واهتمامها بالتفاصيل الأنيقة – كالشعر المصفف بعناية – إلى بساطة الضيعة وحقيقتها وصدق جمالها، كذلك اهتمامها بصديق أخيها الغريب بشكلٍ مبالغ فيه، لدرجة أن تطعمه “الكنافة” بيدها غير مرة، فقد أبعدت بغنجها ودلالها وإمساكها المتكرر ليد “إياد” في زيارته الأولى دون خجل، أي احتمال وارد بأن تكون ابنة ضيعة.
كما أن المطر المنهمر بغزارةٍ شديدة والمرتبط دائماً بالرومانسية السورية لم يكن مناسباً لزي الشخوص المائل للربيعي. حتى سيناريو الحب بين “لوران” و”سوسن” لم يصلنا كما يجب، وحزنها عليه بعد استشهاده لم يلامس قلوبنا، بل بدا وجودها تتمةً للحكاية لا أكثر، أما وفاء “نايا” لإياد وإصرارها على البقاء معه رغم إصابته بالعمى بسبب كمين إرهابي فكان رسالة محبة واعتزاز بكل فتاة لم تتخلَ عن حبها لجريح قدم لوطنه عيونه ليرى في الحب طريق للنور والأمل من جديد، وهنّ كُثر، ولربما هنا كانت فلزة الحكاية التي سبكها “طعمة” بكثير من الحب خلال ساعتين من الزمن.
لربما تأخر “أنتَ جريح” في الظهور إلى الحياة لسبب أو لآخر، لكن تُحسب للمؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني هذه الخطوة الهامة في العودة للإنتاج السينمائي، خصيصاً لهذه الأفلام التي تحمل للعالم حقيقة ما جرى، ولتبقى شاهداً ووثيقة أبدية على عظمة تضحيات أهل سورية لصون وحدتها وكرامتها وتكليلها بالنصر.