أصوات

ما عادت الأصوات الصباحية لمطارق العُمَّال «نجاري الباطون، البلاطين، المعمرجية،..» تزعجني، بل باتت أنشودةً يومية تملأ قلبي بالفرح، وأتذكر معها كيف كان والدي يستيقظ عند الساعة الخامسة مُجهِّزاً نفسه للذهاب إلى عمله، ولا يعود إلا وأشرف غبارٍ رأيته في حياتي يُغطِّي ملامحه الطيبة. لقد صار صوت المطارق بالنسبة لي سيمفونية حنين لا ينضب ألقها، وحاجة يومية لتوازني النفسي، وتحقيق استقرار مزاجي المتقلب أساساً.
كنت أستهجن أصوات «ماكينات الخياطة» في المشغل المجاور لمنزلي، وأشعر أن كل درزة ستنغرز في دماغي، وتصبح غير قابلة للإزالة، أما الآن فزالت ملوحة تلك الأصوات من أُذنيّ، وبدأت أُصغي لها كتوافقات لحنية مع الجو العام، لدرجة أنني فقدت شيئاً من طمأنينتي عندما اضطر صاحب المشغل لمغادرة المكان واستئجار آخر.
حتى صوت الباعة الجوالين، و”مايكرفوناتهم” المكبرة، ماعاد يضايقني، بل صار أكثر عذوبةً مما كان، إذ بدأت أتمعَّن في بلاغة الصُّراخ، وفرادة الإعلان عن بضاعتهم، وإيقاعات الرَّجاء مع كل مناداة، وكأنهم باتوا بالنسبة لي جوقة مكتملة الأركان، بعدما كانوا لفترة طويلة ليسوا أكثر من نشازات تُصدِّع الرأس، وتخلخل استقرار الهدوء والسكينة الداخلية.
بتُّ مغرماً بصوت مطرقة الحداد، ومنشار النجار، وما يصدر عن يدي الدَّهّان وهو يحفّ الجدران بـ« برداغته »الأثيرة، وصرت أعشق صفير الجرَّافات وشخير محركاتها، ونفير القطارات و«زحكات» عجلاتها على السكة، وأصبحت على علاقة طيبة بهدير آلات المصانع، وصراخ باعة البسطات، وأحترم الصوت العالي للمُعلِّمات والمُعلِّمين، وأيضاً حفيف مكنسة عامل التنظيفات في شوارعنا، وزمامير سائقي وسائل النقل العامة، وكل صوت آخر يَشي بأن هناك من يعمل، ولو كان عمله قلي بيض أو تحريك طبخة أو تذويب سُكر في كأس شاي خمير لإنسان متعب.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار