أبحث في وجوه المارّة، وفي وسائط النقل العامة والخاصة، وفي دكان الحلاق، والسوبر ماركت، وعند بياع الخضار والفواكه، وفي المكاتب العقارية، وشركات تحويل الأموال، وأمام كوّة دفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف، وعلى دور الفرن، وبسطات البالة، وعند بائع الفول والفلافل والحمّص، وفي واجهات المحلات، وزوايا الطُّرُقات، وعلى مقاعد الحدائق العامة وبين شجيراتها، وأيضاً في وجوه المشاة على الأرصفة، والكورنيشات البحرية، والأسواق الشعبية، والقابعين في مداخل مراكز الخدمة، والمنتظرين دورهم في محطّات الحياة، ومكاتب دفن الموتى، وفي المستشفيات وعيادات الأطباء، كما أتمعّن في المتألِّمين، والباسمين، ومَنْ نسوا ملامحهم في البيت، ومن ساروا بغير هدى..
أبحث في الصحف القديمة، بزواياها وأعمدتها ورائحة حبرها وملمس ورقها الأثير، في المجلات الملونة وتحقيقاتها وملفاتها وصورها الصافية. ضمن برامج التلفزيون ونشراته الإخبارية ومواجيزه وتحليلاته. في المسلسلات القديمة والحديثة، اجتماعية كانت أم تاريخية أم كوميدية.. وفي السينما وإعلاناتها وعتمة صالاتها والضوء الحُلُم على شاشاتها. وعلى خشبة المسرح، وفي كواليسه، وضمن تراجيدياته وملاهيه، حواراته ومونولوجاته ومونودراماه، أبطاله الميامين وصعاليكه ومُلهميه ومُعرقلي نهضته..
أبحث في الروايات وعمارتها، وأساليب سردها وشخصياتها، وفي القصة بسُرعة بديهتها وذكاء التقاطاتها وسعة خيالها. وأيضاً ضمن بيوت الشعر، وأعمدته، وبين ثنايا نثرياته، وبهاء صوره، وتكثيفاته، واشتغالاته البديعية، ومراياه المعطاءة.
وفي معاجم اللغة وقواميسها، وضمن المترادفات والمتضادات، في أول الكلمة ونهايتها، وعن أصل المعنى، ودلالاته، واستعاراته، وتدجينه، وتهجيره، واقتباساته الدقيقة، وسرقته حتى من ذاته..
أبحث في الفصول وحالات الطقس، وفي بلاغات الغَيم، وتصاريف الريح، وانثناءات الأغصان، وطَرَبَ الكناري، وبَهجة الحسُّون، وخِفَّة السنونو، ونعوات الغربان وتقريعاتهم المديدة، وانبلاج الصبح في صوت الديك، وأناقة عشق اليمام، وصخب القطط، وجلال تفتُّح الزهرة..
أبحث في كل شيء عن لمسة حنان تسندني في هذه المتاهة التي تسمى «حياة».