عارٌ لكم.. عارٌ عليكم
لا يختلف اثنان على أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجيد فن الكذب والخداع والنفاق بل التمثيل الذي يعتبر جزءاً أساسياً من إعداد دبلوماسييها على خشبات وأستديوهات هوليوود أولاً، ثم خشبات مسارح المعمورة التي خرّبها راعي البقر الأمريكي، وكي يُعتمد المسؤول الأمريكي عليه أن يجتاز بكل نجاح وبكل إبداع وتفوق أدوار التمثيل المركبة ليستطيع إقناع الأمريكيين أولاً ثم المشاهدين، والرماديين في العالم..
مناسبة هذا الكلام هو كذب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وهو يترأس جلسة لمجلس الأمن حول سورية عبر الفيديو، قال فيها: «إن 60% من السوريين يعانون خطر المجاعة» ويستشهد بالأم السورية التي باعت شعرها لتطعم أطفالها.. قالها وهو يذرف دموع التماسيح.. وكأنه لم يقرأ أو يسمع، وهو الذي كان يعمل نائباً لمستشار الأمن القومي الأمريكي ما بين 2013 و2015، ثم نائباً لوزير الخارجية في العام 2015- 2017؛ أن الدولة السورية كان لديها مخزون من القمح يكفي لـ6 سنوات ويزيد على حاجتها، وكانت من الدول الأولى في الأمن والأمان.. بل إن أسعار المواد الغذائية ومتطلبات المعيشة والحياة كانت الأرخص ثمناً، ليس على مستوى دول الجوار بل على مستوى العالم بشهادة مراكز الإحصاء الإقليمية والعالمية.. حتى سميت «بلد الفقير» قبل أن تتلطى الولايات المتحدة خلف ما يسمى «الربيع العربي» 2011 وتقود أكثر من 180 دولة بحرب كونية على سورية، مستمرة فصولها حتى الآن.
وكي لا يفهم نفاق وكذب الوزير الأمريكي على أنه حالة فردية أو عابرة لا بد من القول إن “الدستور الأمريكي يحمي كذب السياسيين؛ لأنه تعبير عن عقيدتهم”.. هكذا أعلنت ذات مرة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، في حكم تاريخي أصدرته وألغت بذلك قانوناً صدر في ولاية أوهايو كان من شأنه المعاقبة على الكذب إذا مارسه رجال السياسة”. وقالت المحكمة في حيثيات الحكم: “إن أي محاولة لتقييد أو معاقبة سياسي بسبب كذبه هو انتهاك دستوري لعقيدة مارسها السياسيون لعقود طويلة”.
وسرعان ما أشاد السياسيون من كلا الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي بهذا الحكم التاريخي. وقال الكثير منهم إن إقرار الكذب “كحق” كان يجب أن يحدث منذ مدة طويلة وإنه تأخر كثيراً..
بعد هذه “الشرعنة الدستورية” الأمريكية للكذب، هل نستغرب كذب بلينكن، أليس هو سليل سلفه كولن باول وهو الذي وصف دفاعه عن تقرير بلاده حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة أمام الأمم المتحدة بأنه “وصمة عار في مسيرته السياسية”. واعتبر أن الأمر “مؤلم له”.
“لا غرابة من دموع بلينكن.. فهو يمثل الدور المرسوم له، وأعضاء مجلس الأمن بعضهم لا حول لهم ولا قوة باستثناء روسيا والصين.. ولو كان للأموات صوت لنطق أحدهم وقال له أنت صادق أن سبب جوع الـ60% الذين أشرت إليهم هو أمريكا لأنها هي من تحتل الجزيرة السورية منذ 5 سنوات وهي من نهبت ثرواتها التي تمثل 90% من سلة سورية الغذائية والنفطية والغازية والمائية والكهربائية.. وهي من ترسل أرتال الآليات المحملة بمعدات ومواد لوجستية وأسلحة تابعة لها تدخل القاعدة اللاشرعية في حقل «كونيكو» في ريف دير الزور الشمالي الشرقي، وأمريكا هي من تزرع قواعدها غير شرعية على امتداد الحدود السورية مع كل من العراق والأردن بطول 974 كم لغاية التحكم والسيطرة على حدود دولة ذات سيادة بهدف إدخال الأسلحة بكل أنواعها وتسهيل دخول وخروج الإرهابيين من سورية وإليها؟. وأمريكا هي من سنّت عبر مجلسي « النواب» و«الشيوخ» ما يسمى «قانون قيصر» والإجراءات القسرية أحادية الجانب غير الشرعية المفروضة والمسلّطة على رقاب السوريين منذ العام 2019.. وهي من تنشر أساطيلها التي تجوب المحيطات والبحار لتحرم وصول الدواء والغذاء إلى السوريين رغم جائحة «كورونا».. هل هناك عهر دبلوماسي ممنهج أكثر من ذلك؟
نعم كان صادقاً بلينكن عندما قال: «معاناة السوريين مستمرة»، ولكن هل يتحلى بقدر من الشجاعة والصدق ويعترف أن هذه المعاناة المركبة هي نتيجة احتلال الولايات المتحدة لأراض سورية، ونتيجة تدمير كل الجسور على الفرات بين الضفتين.
قالها بلينكن «عار علينا» إن لم نرفع المعاناة عن السوريين، ولعل هذا هو الصدق الوحيد بكلمته.. نعم هذا عار برقبتكم، وعار عليكم الاستمرار باحتلال سلة غذاء سورية.. وعار عليكم الاستمرار بالتمثيل، والخداع.. وعار عليكم مرابطة أساطيلكم في أعالي البحار وعلى شواطئ سورية لمنع الدواء والغذاء والوقود عن السوريين..
السوريون لا يطلبون الهبات ولا يقبلون المساعدات.. كل ما يطلبوه خروج قوات الاحتلال الأمريكي والتركي وأذرعهم ومرتزقتهم الإرهابيين والانفصاليين، ورفع سيوف الإجراءات الاقتصادية الأحادية الجائرة عن رقابهم، وعن الدول والمؤسسات التي تتعامل مع الدولة السورية، عندها نصدّق أن هذا ليس تمثيلاً مدروساً وليست دموع تماسيح التي يعيها السوريون جيداً وخبروها وجربوها كثيراً، وهم الأكثر خبرة ودارية بسلوكيات أمريكا وفصول مسرحياتها الهزلية.